القردة العليا و أشباه الانسان


بعض الجماجم المكتشفة لأشباه الانسان
بعض الجماجم المكتشفة لأشباه الانسان


رأينا في الحلقة السابقة كيف انهى نيزك قادم من ظلام الفضاء هيمنة الديناصوات على الأرض، ومنح الفرصة لنوع غير متوقع، ليشغل عرش هذه العمالقة البائدة، تجنبت الثدييات الحرارة والنيران لأنها تعيش تحت الأرض، وتفادت الموت جوعا، لأنها تأكل كل شيء وأي شيء،  فازدهرت وتكاثرت عكس التي تنتقي طعامها ، لأن البقاء ليس للأقوى بل للأصلح والأكثر مرونة وتكيفا مع بيئته.   
كانت الثدييات في العصر الجوراسي والطياشيري صغيرة الحجم، بسبب سيطرة الديناصورات وتركز معظم نشاطها خلال الليل، منذ 45 الى 27 مليون سنة ظهرت القوارض، وهي من أكبر رتب الثدييات من حيث عدد الأنواع. وحوالي 8 مليون سنة ظهرت الفيلة والخيول والكلاب والدببة والقردة العليا والطيور والحيتان المعاصرة.  

القردة العليا

توماي Toumaï

عاش توماي السلف المشترك بين القردة والأنسان منذ 7 ملايين سنة، في تشاد حاليا فهو من الناحية التشريحية يشبه الانسان من بعض الجوانب، كالسير على قدمين وميناء أسنانه السميك، ومن جانب اخر يشبه الشامبانزي لأنه عاش متسلقا أعالي الأشجار وقلما مشى  على قدميه ، فحياته كانت شجرية معظم الأوقات لأن إفريقيا في ذلك العصر  كانت كثيفة الأشجار في أغلب مناطقها، لكن الأمر لم يبقى على حاله بسبب التغيرات المناخية الكبرى، التي أثرت جذريا على تطور أسلاف البشر وعلى طريقة تكيفهم. 
حيث تميزت تلك الحقبة بتباعد الأشجار التدريجي عن بعضها البعض و وسع المساحات بين الأشجار و غير نمط الكائنات الشجرية Saheloanthropus. والذي يعتبر توماي أول أنواعها، بالإضافة الى ظهور حقول السافانا الأفريقية التي غطت المساحات الأرضية الخالية من الأشجار، وكان لها الأثر الأكبر في تطور أسلافنا من آبائهم. حيث ‏أجبر التباعد الشجري التدريجي أسلافنا على النزول الى الأرض ومحاولتهم الحصول على أنواع غذاء أخرى أسفل الأشجار، وكان من الضروري أن تحاول الوقوف للنظر لمسافات أبعد لتجنب المفترسات، خاصة النمر مسيف الأسنان مما أدى إلى خاصية المشي على قدمين والتسلق معا. تراوح حجم دماغه ما بين 320 و 380 سم مكعب أي بحجم دماغ الشمبانزي الموجود حاليا.   

رجل الألفية أورورين توجنينسيس Orrorin tugenensis

عاش أورورين منذ حوالي 6 ملايين عام ، وهو واحد من أقدم القردة العليا الشبيهة بالبشر في شجرة عائلتنا. كان الأفراد من هذا النوع يقاربون  حجم الشمبانزي ولديهم أسنان صغيرة ذات ميناء سميكة ، مماثلة للإنسان الحديث. أهم أحفورة من هذا النوع هو عظم الفخذ العلوي ، والذي يظهر  دليلا على تراكم العظام النموذجي للقدمين لذلك قام أفراد Orrorin tugenensis بتسلق الأشجار كما مشوا منتصبين على الأرض.

اكتشف فريق بحثي بقيادة عالمة الحفريات الفرنسية بريجيت سينوت والجيولوجي الفرنسي مارتن بيكفورد هذا النوع في منطقة توجين بوسط كينيا. ووجدوا أكثر من عشرة أحافير بشرية مبكرة يرجع تاريخها إلى ما بين 6.2 مليون و 6 ملايين سنة. بسبب توليفة جديدة من سمات القردة والبشر ،سار رجل الألفية على قدمين واستعمل الحجارة لتكسير جوز الهند واستخرج النمل الأبيض من شقوق الأشجار بأعواد.

الأسترالوبيتيكوس  Australopithicus

أردي بيتيكوس Ardipethicus Ramidus

انشق أردي عن  أسلافه توماي و أورورين قبل 4.4 مليون و ينتمي آردي إلى جنس من الكائنات تسمى Ardipethicus و التي تعني القرد الأرضي، لأنه استطاع المشي على قدمين وفي نفس الوقت استطاع تسلق الأشجار بمهارة تفوق أسلافه، نظرا لوجود تجويف الكتف أعلى عظمة اللوح مما مكنه من الأرجحة كالشامبانزي. فقد ‏كان آردي يحصل على طعامه من ثمار الأشجار غالبا، ويستطيع كذلك أن ينزل إلى الأرض ويتغذى على ما يجده عليها ، مما مكنه التكيف مع بيئته قليلة التشجير. لكنه بحسب الدراسة التشريحية لأقدامه لم يمتلك  مهارات المشي المتقدمة كالقفز والجري وحتى الهرولة، كما لم  يكن يستطيع المشي لمسافات طويلة.

استرالوبيتيكوس أفرنسيس Australopithicus Afarensis

لوسي Lucy

وفقا للحفريات المكتشفة حتى الآن ، فإن Australopithicus Afarensis عاش من 3.7 إلى 3 ملايين سنة. هذا يعني أن هذا النوع بقي على قيد الحياة لما لا يقل عن 700000 عام ، أي أكثر من ضعف المدة التي عاشها جنسنا البشري ، الإنسان العاقل.

 تشير عظام لوسي المعروض في متحف التطور البشري. الى أن جمجمتها الصغيرة وذراعيها الطويلتين والقفص الصدري المخروطي على أنها من القرود ، لكن عمودها الفقري وحوضها وركبتيها أكثر شبها بالإنسان بسبب المشي في وضع مستقيم.

كانت تقطن افريقيا وانحدرت من سلفها  أردي قبل 3.2 مليون سنة، وهي السلف المشترك لجميع فصائل وأجناس الإنسانيات وأول من استطاع المشي منتصبة القامة بإتقان بعد ظاهرة تباعد الأشجار واستحواذ حشائش السافانا على المنطقة الإفريقية، لكنها لا تستطيع الركض وفقدت بعضا من مهارات أسلافها كتسلق الأشجار. تنتمي لوسي إلى جنس القرود من  أشباه البشر يسمى Australopithicus ،  ويعني اسمها القرود الجنوبيون الذين ينتمون إلى منطقة “آفار” Afar، وذلك لاماكن اكتشافهم وتواجدهم بأثيوبيا. يبلغ متوسط طول لوسي حوالي المتر تقريبا أي أقصر من الإنسان الحالي، كما أن جمجمتها تسع حوالي 390 cm3 وهي أكبر بشكل ملحوظ من سابقاتها من المستحاثات التي ذكرناها. كذلك سحنات وجهها تتقارب مع سحنات القردة العليا وهو بروز الوجه والفك من الجمجمة وهذه الصفة غير موجودة إطلاقا لدى البشر الحاليين حيث أن وجوهنا تميل للتسطح.

أسترالوبيثكس أفريكانوس  Australopithicus africanus

الفتى تانغ Taung Boy

نأتي الآن لمستحاثة ‏Australopithicus africanus ، حيث ‏اكتشف منها أحافير كثيرة كان اخرها عام 1992م في جنوب افريقيا وكان يعيش قبل حوالي 2-3 مليون سنة. ‏ينتمي A.africanus ويسمى أيضا Taung Boy نسبة لأول منطقة اكتشف فيها إلى نفس فصيلة لوسي لكنه نوع مختلف، ويتوقع العلماء أنه انحدر من سلفه لوسي قبل 3 مليون سنة، ولاحظ العلماء زيادة في حجم الجمجمة مقارنة بلوسي فحجم جمجمته وصل إلى 430 cm3 وهذا يدل على زيادة قدراته الذهنية مقارنة بأسلافه ، أما طوله فهو قريب من طول البشر الحاليين وذلك بسبب زيادة في طول عظام الفخذ والساق مقارنة بلوسي. كذلك ‏استطاع هذا الفتى الافريقي  Taung المشي افضل من سلفه لوسي زيادة على القدرات الذهنية المتقدمة كما أسلفنا، حيث استطاع أن يتكيف مع بيئته اكثر. 
كما ‏يعتبر A.africanus هو السلف الأحدث والأخير قبل بروز عائلة الانسانيات من جميع الاكتشافات حتى الآن، حيث انشقت منه بدايات السلالات البشرية وعرق الإنسان.

جنس الإنسانيات Homo Genus

إنسان ناليدي Homo Naledi

إنسان ناليدي Homo Naledi وهو أول وأقدم إنسان ينتمي إلي فصيلة الإنسانيات تم اكتشافه حتى يومنا هذا ، حيث أنه عاش قبل حوالي مليوني سنة. تم اكتشافه صدفة في سبتمبر 2013 في كهف يسمى Di-Naledi بجنوب إفريقيا ولذلك سمي الكائن باسم الكهف، الذي اكتشف فيه، واستغرق الحفر في هذا الكهف الصغير أسابيع عدة بمساعدة الكثير من المتطوعين. استغرق تجميع أجزاء عظامه وترميمها أربعة أسابيع، بسبب صعوبة دخول الكهف، استخدم العلماء متطوعين شبان ذوي أحجام ضئيلة يمكنهم الدخول مستخدمين كاميرات فيديو ليلاحظ العلماء كل تحرك لهم والتأكد من سلامة كل عظمة يستخرجونها. بعد فحص ناليدي جيدا ودراسة عظامه اكتشفوا انه ينتمي إلى جنس الإنسان Homo ، وأن هذا الكهف الذي دخلوه ما هو إلا مقبرة كان يستخدمها ناليدي لوضع موتاه هناك ودفنهم، وهذا يدل على سلوك من التفكير الرمزي المعقد، واهتمامهم بحرمة الميت، كذلك الكهف كان مظلما جدا فكيف استطاعوا دفن هذه الجثث وترتيبها في تلك الظلمة دون استخدامهم لنوع من الإضاءة كالمشاعل أو النار؟ وكان هذا الاكتشاف عظيما لأنه يبين المرحلة الأولى التي ظهر فيها الإنسان وتطوره من أسلافه. يبلغ طول ناليدي حوالي 1.50 m أي متقارب جدا من متوسط طول البشر الحاليين، كذلك يستطيع استخدام يديه لصنع الأدوات، ويبلغ حجم جمجمته حوالي 460 cm3 أي بحجم البرتقالة تقريبا، رغم ذلك قدراته الذهنية متقدمة عن أشباه البشر الذي تم ذكرهم مسبقا.

نلاحظ من السرد السابق وجود ثلاث فصائل من القردة العليا شبيهة بالبشر ظهرت قبل الإنسان Homo وهي Saheloanthropus و Ardipethicus وأخيرا Australopethicus وكل واحد منهم يمتلك قدرات متقدمة عن سابقه، ومن هنا سننطلق إلى أنواع الإنسانيات الأخرى وصولا إلى البشر الحاليين الإنسان العاقل Homo sapiens

الانسان الماهرHomo habilis


الانسان الماهر أو Homo habilis هو ثاني أقدم فصيلة من الإنسانيات بالتزامن مع  إنسان ناليدي، وتم اكتشاف احافير كثيرة له أحدثها عام 2007م في أفريقيا. ‏عاش الانسان الماهر قبل حوالي 2.3 مليون سنة  و المرجح أنه تطور عن لوسي أما جمجمته فكانت أكبر من “ناليدي” حيث تسع حوالي 550  cm3 وهذا يدل كبر دماغه وبشكل بديهي تقدم قدراته العقلية. بدأت تتشكل أول الملامح الإنسانية مع تطور الانسان الماهر من سلفه، حيث كان يعيش حياة اجتماعية ميزته عن القردة العليا التي ذكرناها. 

وتميز الانسان الماهر باستخدام الأدوات الحجرية بعد تشكيلها ونحتها واستخدمها في قتل اعداءه ،وتقطيع فرائسه. انحدر من الانسان الماهر بقية فصائل الانسانيات الأخرى الأكثر تطورا، حتى وصولنا اليوم على الوجود على الأرض. امتلك أياد أطول من أياد البشر الحاليين، كما أن طوله متقارب من متوسط طولنا، كذلك تقلص البروز الوجهي الذي جعله مشابها للبشر أكثر من أسلافه أشباه البشر.

الانسان العاملHomo ergaster


انشق من الانسان الماهر الانسان العامل أو ما أسماه العلماء Homo ergaster الذي كان يعيش قبل 1.2 مليون سنة. وقد ‏اكتشف العلماء الكثير من جماجم الانسان العامل  H.ergaster في سهول افريقيا الجنوبية وحتى كينيا في أعوام مختلفة. أول أحفورة له اكتشفت بعام 1949م بجنوب أفريقيا وآخر أحفورة تم اكتشافها كانت بعام 1984م في بحيرة توركانا Turkana Lake ‏وجد حجم جمجمة الانسان العامل أكبر من سابقه الإنسان الماهر حيث ان جمجمته تسع cm3 700وهذا يدل على تضخم حجم دماغه عن اسلافه تباعا، وتقدم قدراته الذهنية بالمقارنة. كان الانسان العامل متقدما على اسلافه من ناحية الذكاء والقدرات العقلية والتواصل الاجتماعي حيث استطاع تطوير الأصوات الى رموز لها معنى للتواصل بين أبناء عشيرته. 

‏استطاع الانسان العامل تطوير الأدوات الحجرية وجعلها افضل استخداما من سلفه الانسان الماهر. من العلامات أيضاً المميزة للإنسان العامل هو تساقط شعر جسمه وظهور الغدد العرقية بشكل كبير وهذا الذي جعله يتكيف مع حرارة الجو اثناء الركض لمسافات طويلة. الإنسان بشكل عام يمتلك العدد الأكبر من الغدد العرقية على سطح جلده، وذلك يساعده على تنظيم حرارة الجسد وتنظيم الأملاح كذلك، وهذا يندر لدى الثديات الأخرى فالكلب مثلاً يخرج لسانه أثناء الحر ليلهث مما يساعده على تلطيف حرارة جسمه.

الانسان القائم Homo erectus


‏الانسان المنتصب او القائم كما أسماه العلماء ‏Homo erectus الذي وجدت له مستحاثات كثيرة في افريقيا آخرها كان عام 2013م. انشق الانسان القائم من سلفه الانسان العامل وتميز بكبر حجم جمجمته الذي وصل الى cm3 850 من سلفه العامل، ونلاحظ هنا بشكل جلي في زيادة حجم جمجمة الإنسان كلما تقدم الزمن خلال ملايين السنين. ‏عاش الانسان القائم قبل حوالي مليوني سنة في مختلف أرجاء القارة الإفريقية وساعده دماغه الكبير على تطوير ذكاءه للتكيف مع بيئته بشكل كبير. واستطاع الانسان القائم بدوره تطوير الأدوات الحجرية بدقة أكبر من سلفه، كما استطاع استخدام الحراب في الاصطياد والدفاع عن نفسه من أعداءه بالسهول الإفريقية. نضيف إلى ذلك أن للإنسان القائم القدرة على  الركض لمسافات بعيدة مما مكنه اللحاق بفرائسه مهما كانت سرعتهم وذلك بعد إنهاكهم في الركض بعد فترة زمنية معينة، وهنا تطور ملحوظ، لأن الأسلاف البشرية التي سبقته كانت تفتقر إلى خاصية الركض السريع لمسافات طويلة. واستطاع أيضاً الانسان القائم بذكائه تطوير القدرة في الكلام للتواصل مع اقرانه لتحديد أماكن الإقامة والطرائد ونحوها من الظروف البيئية التي تساعدهم للتغلب على مشاق الحياة. 

‏أهم منجزات الإنسان القائم هو اكتشافه للنار واستخدامها في طهي طعامه، مما ساهم  في تطور كبير في عمليات التفكير. بطهي الطعام يتمكن الدماغ من الحصول على سعرات حرارية أكبر بمجهود اقل، لأن طبخ الطعام يزيد من ليونته وسهولته بالهضم وكذلك يساعد على استخلاص السعرات الحرارية بمجهود وطحن أقل، مما ساعد على صغر حجم الفك وضعف العضلات الفكية المتصلة بالجمجمة، وبالتالي ساعد ذلك في نمو الدماغ لدى الانسان القائم وتمدده. يعتبر ‏الانسان القائم أول أنواع فصيلة الانسانيات التي تمكنت من مغادرة القرن الافريقي والهجرة الى اقاصي الصين ومن ثم جزيرة سومطرة بإندونيسيا.

‏إنسان هاديلبيرج Homo Heidelbergensis


أما أهم الإنسانيات التي انحدر منها الإنسان القائم هو ‏إنسان هاديلبيرج Heidelbergensis حيث تم اكتشاف اول جمجمة له في عام 1907 في المانيا في منطقة تسمى هايدلبرغ فسمي نسبة إليها. اكتشف العلماء العديد من مستحاثات هايديلبيرج وكان آخرها عام 2005م اطلق عليه الاسم العلمي Homo Heidelbergensis كما أسلفنا آنفا.

 انسان هايدلبيرغ هو شكل وسطي بين الإنسان المنتصب وإنسان النياندرتال، يملك حجم جمجمة نموذجي يقدر بنحو 1250 سم مكعب وذلك يدل على حجم دماغه الكبير بالمقارنة مع بقية أنواع الإنسانيات الأخرى آنفة الذكر مما جعله ذو قدرات عقليه متفوقة على نظرائه. يعتبر ‏‏إنسان هاديلبيرج مهم لنوعنا البشري لأنه باعتقاد العلماء السلف الاخير لنا مباشرة حيث انشق منه عرقنا الإنسان العاقل، ولهذا سأستفيض في شرحه. بحسب ما وجده العلماء من مستحاثات لإنسان هاديلبيرج فإنه قد عاش على سطح الأرض مابين - (600 و 400) ألف عام، وهنا يتضح لدينا قربه الزمني من ظهور نوعنا البشري الذي ظهر قبل حوالي 300 ألف سنة تقريبا. 
كما ذكرنا سابقا ‏مقارنة بأسلافه يعتبر انسان هايديلبيرج متطور فكريا حيث كان يصطاد فرائسه من الطرائد البرية في جماعات ويطهوها لاحقا باستخدام النار فقد ورث هذا العلم من سلفه الإنسان القائم. واستطاع انسان هايديلبيرج تطوير اللغة اكثر من سلفه حتى انه استطاع تمييز أكبر عدد من الأصوات مثلنا ‏ومنها تطور اجتماعيا وسلوكياً، فأصبح هناك علاقات وطيدة بين كل عائلة في نفس العشيرة يهتم أفرادها بشؤون بعضهم من ناحية الاعتناء بالأطفال والتربية والعناية في حالة المرض والتعاون في الطعام والشراب والكثير من الأمور الاجتماعية الأخرى التي نلاحظها في يومنا الحالي بيننا.

لذلك ‏تمكن إنسان هايديلبيرج من انشاء مجتمع ذو ثقافة قريبة منا نحن البشر، وكل ما طوره من صفات ساعدت على نشوء جنسنا البشري. ارتدى انسان هايديلبيرج أنواع مختلفة من جلود الحيوانات والصوف وكان اول من غطى اعضاءه التناسلية للتستر عن اقرانه. كما ‏‏طور صناعة الأسلحة وهو أول من صمم الرماح المستدقة بالأحجار الحادة مما ساعدت كفاءته في الصيد خاصة عن بعد عن طريق رمي الرمح. كذلك يعتبر هايديلبيرج من أول الكائنات الإنسانية التي تحمل سلوكا دينيا، فقد كان يدفن موتاه بطقوس معينة، وكان يستخدم الصبغ والحلي لتزيين موتاه، وهذا ما يوضح بشكل بين أنه يؤمن بغيبيات معينة قد تمتلك طابعاً لأديان بدائية، وهذا كله كان قبل ظهور الإنسان الحالي بنصف مليون سنة. استفاد انسان هايديلبيرج من تفوقه الفكري في اللغة والأسلحة واللباس لغزو القارة الأوروبية التي كانت قارسة البرودة في تلك الحقبة، ولم يستطع أي نوع إنسان آخر زيارتها.

بذلك ‏اصبح هايديلبيرج يعيش في قارتين منفصلتين وهما ‏افريقيا وأوروبا، أدى هذا الاختلاف البيئي بين القارتين وافتراق عشيرتهما إلى نشوء جنسين من مختلفين من البشر. والنوعين الجديدين الذين  انحدرا منه هما انسان نيانديرثال  في قارة أوروبا ونحن أي  هوموسابيان في قارة أفريقيا.

انسان نيانديرثال Neandethal Homo


سنبدأ بالحديث عن انسان نيانديرثال Homo Neandethal الذي برز في أوروبا من سلفه هاديلبيرج Heidelberge الذي هاجر إلى أوروبا كما أسلفنا. وقد عاش Neandethal بأوروبا قبل حوالي 450ألف سنة وكان ذلك نتيجة للبيئة القارسة البرودة التي عاشها أسلافه وهي تختلف بشكل كبير عن المناخ الإفريقي الجاف والحار. من أوائل الجماجم التي تم اكتشافها كانت في عام 1856م في أحد كهوف بألمانيا لواد كبير يسمى “نياندر” Neander ولم يعرف المكتشفين في ذلك الوقت لمن تعود هذه المستحاثة واعتبروأنه انسان عانى من تشوه خلقي، وسمي نيانديرثال نسبة للمنطقة التي أكتشف فيها، وقد تم تحديد عمر المستحاثة فقط كإنسان عاش قبل 300 ألف عام. منذ ذلك الوقت اكتشف العلماء الكثير من عظام Neandethal في أماكن كثيرة بالقارة الأوروبية من سهول سيبيريا شرقا حتى اسبانيا غرباً ومن منطقة الشام جنوباً حتى جنوب الجزر البريطانية شمالاً. 
 كان آخرها سنة 2012م في اسبانيا حيث يعود عمرها حوالي 43 ألف عام، وهذا ما يثبت الفترة الزمنية التي عاشها نيانديرثال من قبل 450 ألف عام حتى 43 ألف عام، وبذلك يتضح أنه قد عاصر البشر الحاليين المسيطرين على الأرض قبل انقراضه تماما. ‏كان حجم جمجمة النيانديثال أكبر من جمجمة أنواع الإنسانيات الآنفة الذكر كذلك تفوقت على حجم جمجمة الانسان الحالي حيث كانت تسع 1600سم مكعب مما يدل على أن دماغه أكبر من أدمغتنا، ويدل أيضا كدلك على كفاءة قدراته العقلية. ‏
عند مقارنة بجمجمة الانسان العاقل الحالي نجدها أكبر، لكن الناصية وهي الجزء الأمامي من الجمجمة التي تحوي تحت غطائها أهم مراكز الإدراك والتفكير والقدرات العقلية لدى الجزء الأمامي من الدماغ نجدها أكبر لدى الانسان العاقل بشكل ملحوظ وهذا ما جعل العلماء يعتقدون بتفوق العرق البشري في الذكاء والدهاء واللغة والتواصل الاجتماعي. نشأ نيانديرثال كما ذكرنا في أوروبا وانتشر في جميع ارجاءها، وكان يقتات غالبا على اللحوم ولا يعتمد على النباتات بشكل رئيسي لقلة توفرها في المناخ البارد الذي كان يكسو القارة الأوروبية في تلك الحقبة المسماة بالعصر الجليدي. 
وكان لباسهم سميكا مصنوع من جلود الحيوانات ذات الشعر الكثيف مناسبا للبرودة الشديدة ويساعدهم على التكيف فيها. تعلم Neandethal أسلوب صناعة الحراب كما ورثها  من أسلافه وطورها وذلك مكنه من اصطياد طرائده في البراري الأوروبية الموحشة. 
كذلك ‏استخدم النيانديرثال النار للإضاءة والتدفئة وللطهو أيضا وطور استخدامها أكثر من أسلافه. كان متوسط طول النيانديرثال حوالي 1.6 متر أي أقصر بقليل من متوسط طول الانسان الحديث لكنه كان أثقل وزنا لاختلاف نوعية غذائه المعتمدة على اللحوم والشحم كما ذكرنا. وجد العلماء الكثير من الآثار التي تثبت أن للنيانديرثال معتقدا دينيا، فبحسب ما اكتشف من مستحاثات، يتضح أن النيانديرثال كان يمارس نوع من الطقوس أو الشعائر قبل دفن موتاه، كتلبيس الميت أنواع من الحلي وصبغه ببعض المواد الملونة، والمذهل أن إنسان النياديرثال امتلك نوعاً من الروحانية والعبادات قبل ظهور الإنسان العاقل بكثير.

في عام 1997م قام بعض علماء الجينات باستخراج بعض من الأحماض النووية DNA للنيانديرثال واستمر تحليلها لمدة أكثر من عقد من الزمان، حتى استطاعوا أخيرا رسم الخارطة الجينية الكاملة “الجينوم” للنيانديرثال، والمذهل هو التطابق بنسبة 99.5% بينه وبين الجينوم البشري، وهذا ما يدل على وجود سلف مشترك مباشر بيننا. ‏عاش النيانديثال حوالي 200 ألف سنة، ‏ولم يكن يعلم انه سينقرض بقدوم ابن عمه لأوروبا! ‏الا وهو الانسان العاقل!

الانسان العاقل Homo sapiens


أقدم ماعثر عليه من أحفورات للإنسان الحديث مثل بقايا أومو يرجع تاريخها إلى نحو 195.000 سنة ، وإنسان Homo sapiens idaltu قبل 160,000 سنة وبقايا إنسان Qafzeh قبل نحو 90.000 سنة وجميعهم يعتبرون من الإنسان الحديث . ولكن هؤلاء البشر الحديثين الأوائل يشتركون في بعض الصفات مثل عدم بروز عظام الجبهة بروزا كبيرا. ولكن في سنة 2017 تم العثور على جمجمة إنسان بدائي يعود عمرها لأكثر من 350.000 سنة في جبل "إيغود" بالمغرب. ويشكل هذا الاكتشاف ثورة علمية حقيقية، إذ أن عمر الإنسان العاقل قد قفز مرة واحدة مائة ألف سنة، من 200 ألف سنة الى 300 ألف سنة. ومن شأن هذا التطور أن يغير من البرامج الدراسية بل والرؤية إلى تطور الإنسان من الإنسان العاقل الى الحالي. قبل حوالي 150 ألف سنة، وعندما كان إنسان النيانديرتال منتشرا في عموم أوروبا وفي أقسام من آسيا الداخلية. نشأ جنس الإنسان الهومو سابينس Homo sapiens لأول مرة من الجد الأقدم لإنسان النيندرتال الذي بقي في أفريقيا - ثم نزح من أفريقيا إلى أوروبا مرة ثانية بعد تطوره إلى هومو سابينس قبل نحو 45.000 سنة.

عندما وصل الإنسان الجديد إلى أوروبا شكل تحديا لوجود النيندرتال. وبدأ العد التنازلي لقدرة النياندتال على البقاء ومنافسة الإنسان الجديد. لا أحد يعرف بالضبط كيف حدث هذا، ولكن المستحاثات واللقى التي عثر عليها في أنحاء متفرقة من أوروبا تشير إلى أن الإنسان الجديد Homo sapiens وصل إلى أوروبا من الشرق والجنوب الشرقي قبل حوالي 45 الف سنة، وعاصرا النيانديرتال لفترة تقترب من 15 ألف سنة؛ وهي الفترة التي يصبح فيها إنسان النيانديرتال الأخير محشورا في منطقة شبه جزيرة إيبيريا، حيث تقع حاليا إسبانيا والبرتغال. 

لا يوجد ما يدل على حدوث إبادة جماعية، لكن لربما خسر الإنسان الصراع على الطعام أو لربما اختلطا عرقيا مع الإنسان الجديد. ولكن الاحتمال الأخير يفترض أن يكونوا قد تركوا آثارهم الجينية في الإنسان الحالي، وهذا هو محل دراسات العلماء.

تمثيل تقريبي حسب شكل الجمجمة لأشباه البشر
تمثيل تقريبي حسب شكل الجمجمة لأشباه البشر

وبهذا أتمنى أن أكون قد وفقت في سرد قصة القرود العليا وأشباه الانسان. أنا عن نفسي فأومن بالتطور الموجه أي أن الله فاعل في الكون من خلال قوانين وسنن تسري فيه وتنظمه فكما المادة بعناصرها الكيميائية نشأت من خلال مادة صرفة مركوزة في المتفردة أو النقطة البدئية تحولت الى كواركات ونويات ومن تم لهيدروجين وهيليوم  وبعدها تولدت باقي العناصر الكيميائية في رحم النجوم عن طريق الاندماج النووي و أخيرا عندما ينهي النجم مخزون طاقته ينفجر وينثر العناصر التي كونها خلال حياته والعناصر الأثقل التي كونها عند نهايته في الفضاء الفسيح على شكل سديم لتتخلق منها نجوم جديدة  وكواكب وأقمار, ان غبار النجوم يكون كل شيء من حولنا بما فيه أجسامنا فما المانع أن يخلق الله كل شيء تبعا لسلم التدرج من الجامد الى الحي ومن الأدنى الى الأرقى.
وكيفما كان الحال فلا يمكن  لأحد أن يجزم بأنه يعرف طريقة الله في الخلق هذا طبعا إذا كان يؤمن بوجود الله أما إذا كان ملحدا فسيقع في اشكاليات أكبر كتفسير نشأة الحياة نفسها والفصل في قضية الإنفجار الكمبري والبحث عن الحلقات الانتقالية إلى آخره من الاشكاليات التي لا حصر لها.


 الحلقات السابقة:



المراجع المعتمدة:


Anthropobiologie - Evolution humaine de Éric Crubézy

L'Odyssée de l'espèce

 حكاية الكون لأحمد زعيتر


التعاليق

أحدث أقدم