ذات مرة طرح الطبيب النمساوي الذي طور العلاج الحالي لداء باركنسون في ستينيات القرن العشرين, أوليه هورنيكيفيتش Hornykiewicz الرؤية التالية " ما التفكير سوى حركة مقتصرة على الدماغ" تتسم الحركة بسلسلة من الاجراءات المرتبطة التي تحدث بترتيب معين. وأبسط مثال, المشي الذي هو عبارة عن سلسلة من الخطوات التي يؤدي فيها وضع إحدى القدمين للأمام, إلى جعل القدم الأخرى تتجاوزها, وبالتالي تؤدي خطوة واحدة إلى أخرى في سلسلة من الأسباب والنتائج, غير العشوائية بل ضمن تسلسل خطي ثابت. وهذه هي الحال مع التفكير. إن كل فكرة, سواء كانت خيالا أو ذكرى أو حجة منطقية أو خطة عمل أو أمل أو حزن, تتشارك هذه السمة المشتركة الأساسية للتسلسل الثابث.
كيف تحدث عملية التفكير في عقولنا؟
كيف تحدث عملية التفكير في عقولنا؟

وباعتبار أنه من الواضح أن هناك بداية ومنتصف ونهاية محددة لهذا التسلسل, فلا بد أن يكون هناك إطار زمني. ومن وجهة نظري, فإن فكرة التسلسل هذه هي الجوهر الأساسي للفكر, وهي الخطوة العقلية اللازمة التي من شأنها أن تميز خط أو سلسلة الأفكار عن العاطفة اللحظية المنفردة المأسورة في صيحة من الضحك أو الصراخ. وعلى عكس الشعور الخام الذي يحدث كاستجابة لحظية, فهي عملية تتجاوز " هنا والأن" وتربط الماضي بالمستقبل.

ليس البشر وحدهم هم من يمتلكون ذاكرة كافية للربط بين حدث سابق, أو ثمة سبب, وحدث لاحق, أو ثمة ثأثير, وحتى تصور نتيجة محتملة لذلك في المستقبل. إن الجرد الذي يحصل على كرية من الغذاء عن طريق الضغط على قضيب معدني يمكنه قريبا أن "يفكر" في أفضل خطوة تالية يمكنه القيام بها, ومن ثم تعلم كيفية الضغط على القضيب مرة أخرى . وهنا تحدث صياغة الرابط بين المحفز والاستجابة. غير أننا نحن البشر نتميز بقدرتنا على ربط أحداث وأشخاص و أشياء غير موجودة أمامنا بالفعل بتيار من الأفكار.

نحن نمتلك القدرة على رؤية شيء ما, بما في ذلك كلمة مجردة. وعلى خلاف جميع الحيوانات الأخرى, حتى الرضع من بني البشر, لدينا لغة منطوقة ومكتوبة. نحن نتحرر من ضغوط اللحظة المحيطة بنا لأننا نستطيع أن نتوجه إلى الماضي ثم إلى المستقبل باستخدام الرموز والكلمات التي تمثل أشياء ليست موجودة فعليا, فيمكننا أن نتذكر و أن نخطط وأن نتخيل , غير أن الأمر يتطلب بعض الوقت للقيام بذلك. وكلما كانت الفكرة أكثر تعقيدا ازداد الوقت الذي نحتاج إليه لاتخاذ الخطوة الذهنية اللازمة.

لكننا إذا وضعنا دماغا بشريا, تتمثل مهمته التطورية في التكيف مع بيئته, في بيئة لا يوجد فيها تسلسل خطي واضح حيث يمكن الوصول إلى الحقائق بشكل عشوائي, وحيث كل شيء قابل للعكس, وحيث تبلغ الفجوة بين المحفز والاستجابة حدها الأدنى, فمن الممكن تحويل قطار الأفكار عن مساره, مع اضافة قدر من المشتتات الحسية مرئية ومسموعة والذي سيعزز قصور الانتباه, فمن المرجح أن تفقد قدرتك على التفكير المنطقي وتدخل في حالة من اللاوعي وعدم اليقين وتختلط الأمور في رأسك حنى تصير غير مدرك للعالم الذي تتواجد فيه وهذا اشبه بالحالة التي تنتابنا عندما نستيقظ من النوم قبل أن نستجمع أفكارنا, فلا نعلم محل وجودنا ولا زمانه. ومن هنا نستنتج أن تسلسل الظواهر وجريان نهر الزمن باتجاه المستقبل وتوافق العلة مع المعلول, وامتلاكنا لأدمغة قادرة على الربط بين كل هذه المتغيرات وفق نسق منطقي هو ما يجعلنا قادرين على التفكير.  

التعاليق

أحدث أقدم