زوارنا الأعزاء، لا زلنا بصدد سرد قصة الحضارة التي انبثقت في الشرق الأدنى وبالخصوص بلاد ما بين النهرين دجلة والفرات، وبعد أن حطينا الرحال في حقبة عصر السلالات الحاكمة في سومر: الأولى والثانية والثالثة في الفترة ما بين2900 و2350 ق.م. ورأينا كيف تطورت العمارة وأصبحت المدن تشكل مراكز اقتصادية وسياسية ودينية، وازدهار الفلاحة التي انتعشت بشق قنوات الري. والأهم هو ظهور مفهوم "دولة المدينة" بشكله الدقيق. والاكثر من ذلك ظهر ما يمكن أن نسميه ببداية الصراع بين الدول، أي الصراع بين المدن المختلفة حيث كانت كل مدينة تحاول أن تبسط نفوذها وتسيطر على المدن الأخرى. وقد ذكرت أيضا في موضوعنا السابق حدث الطوفان، لكني لم أشأ أن أتوسع في عرض تفاصيله لأنني ارتأيت أن أفرد له موضوعا مستقلا نظرا لأهميته في إعادة تشكيل الحضارة البشرية في بلاد ما بين النهرين والشرق الأدنى برمته.
حقيقة الطوفان
حقيقة الطوفان

يعتبر الطوفان حدثا شائعا ومتداولا في جميع الحضارات والأديان فلقد ذكر في القصص السومرية والبابلية، كما ذكر في التوراة والقرآن من بعده وسأحاول أن أورد تفاصيل ما جاء في الأساطير القديمة وفي نفس الوقت ما ذكر في التوراة والقرآن لنحاول أن نصل إلى نقاط الالتقاء بين هذه المصادر، وبين علم الجيولوجيا واللقى الأثرية للوصول إلى رؤية شمولية لهذا الحدث المهم.

قصة الطوفان السومرية والبابليةوالأديان السماوية

ملحمة جلجامش الأسطورية


تمكن " سيدني سمث "سنة 1853 م من الكشف عن اثني عشر لوحا مكتوبا باللغة الأكادية كانت موجودة في المكتبة الشخصية للملك الآشوري "آشوربانيبال" في نينوى بالعراق. ويمكن أن نصف ملحمة جلجامش بأنها مجموعة من الاختبارات تنتقل من البعث إلى الخلود, وردت قصة الطوفان الكبير في ملحمة جلجامش على لسان بطل الطوفان نفسه، والمدعو هنا "أوتنابشتيم"، عندما وصل إليه "جلجامش" في نهاية رحلته الطويلة التي شرع فيها يبحث عن الخلود، وسأله عن سرّ الحياة والممات وكيف استطاع الحصول على الحياة الخالدة من دون بقية البشر. فقال له "أوتنابشتيم" بأن خلوده كان حدثاً استثنائياً لن يتكرر مرة أخرى، وأنه ناله عقب الطوفان العظيم مكافأة له على إنقاذ بذرة الحياة على الأرض.

بعد ذلك نفهم أن مجمع الآلهة، ولسبب غير واضح، قرَّر إفناء الجنس البشري وكل مظاهر الحياة بواسطة طوفان شامل يغمر الأرض. بقية النص غير واضحة تماماً للقراءة، ولكن ما تبقى منه كافٍ لرسم الخطوط العامة للقصة. فالإلهة "إنانا"(عشتار) تقيم مناحة على البشر على الرغم من عدم خروجها على إجماع الآلهة، وكذلك الإلهة "ننتو"، الأم الخالقة التي ساهمت في خلق الجيل الأول من البشر، أما الإله "إنكي" المعروف بقربه من البشر ومحبته لبني الإنسان، فقد قرر على ما يبدو الخروج على إجماع الآلهة سراً، وإنقاذ بذرة الحياة على الأرض، فيظهر في الحلم لملك مدينة "شوروباك الصالح" المدعو "زيوسودرا" (والاسم السومري هنا يحمل نفس دلالة الاسم البابلي "أتراحاسيس"، أي الفائق الحكمة، ويكشف له عن سر الطوفان.

الطوفان المذكور في القصص السومرية والبابلية كان طوفانا واحدا، باعتباره حدثا تاريخيا مهما تناقلته شعوب هذه المنطقة وظل عالقا في الفكر الجمعي لسكان الشرق الأدنى.

الطوفان في الثوراة والقرآن الكريم



تقول قصّة الطوفان الواردة في سفر التكوين أن قوم نوح فسدوا وأفسدوا في الأرض، فغضب الله عليهم وأنذرهم على لسان نوح بعذاب الاستئصال بإرسال الطوفان العارم، فلم يعبؤا بذلك وظلّوا يعبثون و يعثون في البلاد فسادا.

ولمّا بلغ نوح من العمر ستمائة سنة أمره الله بصنع الفلك (في 300 ذراع طولاً و50 ذراع عرضاً و30ذراعاً في الارتفاع) جاء الطوفان، و تفجرت ينابيع الأرض وفتحت طاقات السماء وظلت تمطر بغزارة 40 يوما متتالية حتّى بلغت المياه قمم الجبال الشامخة في كل جوانب الأرض و ارتفع منسوب الماء على أشمخ قمّة من الجبال بخمس عشرة ذراعاً، و بذلك هلك الحرث و النسل و مات كلّ ذي حياة على وجه الأرض من الدوابّ و البهائم و حتّى الطير في السماء. و دام الطوفان على وجه الماء حتّى أخذ الماء ينحطّ و يغور فاستقرّت سفينته على جبل « آرارات » بأرمينية. فنزلوا من السفينة وعاش نوح بعد ذلك 350 عاماً حسب الإصحاح التاسع عدد 28.

وكان الذي حمله نوح معه في السفينة غير أهله و ذويه والمؤمنين معه أزواجاً ( ذكراً و اُنثى ) من كلّ أنواع الحيوانات لئلاّ ينقرض نسلها و تباد من الوجود . «من جميع البهائم و الطيور ذكراً و اُنثى، لاستبقاء نسلها على وجه كلّ الأرض» .

أما في القرأن الكريم فنجد ذكر قصة الطوفان في سورة نوح عليه السلام، الذي بذل جهدا مضنيا يفوق احتمال البشر طيلة ألف سنة إلا خمسين عاماً، في دعوة قومه الضالين حتى يئس و لم يؤمن معه إلا القليل وكان من بين هؤلاء أبناء نوح الثلاثة (سام، حام، يافث).أما الابن الرابع فلم يكن من المؤمنين وكان كلما انقرض جيل جاء من بعده جيل أخبث وألعن، فقد كانوا يوصون أبناءهم بعدم الإيمان بنوح عليه السلام لهذا دعا عليهم نوح بعد أن يئس من إيمانهم فقال: (وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا*إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) - نوح-26-27 

ثم بعد ذلك أوحى الله تعالى إلى نوح بأنه لن يؤمن أحد من قومه إلا الذين أمنوا من قبل. فأمره الله تعالى ببناء السفينة مع أصحابه المؤمنين لينجوا بها من عذاب الله. بعد أن أتم بناء السفينة أمره الله تعالى بأن يحمل معه في السفينة أهله وأصحابه المؤمنين وأن يحمل من كافة الطيور والدواب زوجين اثنين، وعندما حل عذاب الله تذكر نوح ابنه كنعان، فناداه ليركب معهم، لكنه رفض وقال بأنه سيذهب إلى جبل ليحتمي به، فرد عليه نوح: (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم) هود:43-

ثم أغرق الموج كنعان والذين كفروا. بعد ذلك هدأ الموج وتسرب الماء في شقوق الأرض، فتثبت السفينة عند جبل الجوديّ، وكان ذلك يوم عاشوراء من المحرم بعد أن بقوا في السفينة 150يوما وسمي نوح بأبي البشر الثاني لأن جميع أهل الأرض بعد الطوفان هم من نسل أهل السفينة الذين كانوا مع نوح، كل الخلائق ينسبون إلى أولاد نوح الثلاثة، فقد روى أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: سام أبو العرب، وحام أبو الحبش، ويافث هو أبو الروم ...

خلاصة



إذا كان تاريخ سلالة كيش الأولى التي حكمت ما بعد الطوفان يعود إلى عصر فجر السلالات الثاني، وتاريخ "جلجامش" يعود إلى العصر الثالث فتاريخ الطوفان يقع ما بين حضارة "جمادة نصر" وعصر السلالات الأول أي حوالي 2900 ق.م و 2750 ق.م .

ولكن woolley يرى أن الطوفان وقع في مرحلة من مراحل عصر حضارة عبيد (من 4500 إلى 4000 ق.م) لأن الطبقات الغرينية الترسبية في "أور" تعود إلى هذه الحقبة بالذات.

وعلى أي يبقى حدث الطوفان حدث تاريخي ولا نعلم على وجه اليقين إن كان قد عم كل الكرة الأرضية أو اقتصر على الشرق الأدنى وإن كانت التنقيبات الجيولوجية توحي بعدم عالمية هذه الكارثة.

التعاليق

أحدث أقدم