عندما يتعلق الأمر بأصل الإنسان، تطفو على السطح الكثير من التفسيرات والنظريات والمعتقدات حول نقطة البداية التي بدأ منها وجود البشر على الأرض،  و من جملتها ادعاء السومريون في كتاباتهم الأثرية على الأحجار الطينية حسب تفسيرات المتخصصين أن  كائنات نزلت من الفضاء تدعى الأنوناكي، أخذوا (مَني) أحد الأنوناكي، وخصبوا به بويضة إنسان بدائي بسبب حاجتهم للعمال، وحرقوا المراحل باستخدامهم ما نسميه اليوم بالهندسة الوراثية. وانتجوا كائناً هجيناً هو رجل الكروماتيون أو الرجل الحديث. وإن غاية نزولهم من السماء إلى الأرض كانت بحثهم عن الذهب، لذلك خلقوا هؤلاء لمساعدتهم في استخراجه. وهدا ما يصطلح على تسميته بنظرية التعديل الجيني.

لكن قطبي الصراع الأساسين حول هذه القضية، ينحصر عموما بين الإخبار الإلهي ويتجسد في قضية الخلق، حيث تتفق الأديان السماوية على أن الله قد خلق آدم خلقا خاصا ومميزا وتاما من طين الأرض ونفخ فيه من روحه،  ليكون خليفته على أرضه، وبين الرواية الداروينية التي ترتكز على نظرية النشوء والارتقاء، التي ترى بأن الأنواع كلها قد تطورت من أصل واحد، من خلية حية نشأت مند ملايينِ السنين عن طريق الصدفة البحثة بسبب تفاعل عناصر كيميائية في ماءِ البحر، ودفعتها الظروف المحيطةُ والطفرات الوراثية للتكيف و التطور.. و يفضي هذا الاستنتاج إلى أن الإنسان قد تطور من سلف مشترك بينه وبين ، القرودِ العليا!.. وهكذا انتزع (داروين) الإنسانَ من تفرده الذي كان يشعرُ به تجاه المملكة الحيوانية، وجعله في نهاية المطاف ابن عمومة للقرود!
سواء كنت مؤيدا للداروينية او مناهضا لها فلا بد أن تكون مطلعا على  فصول رواية نشوء وارتقاء الجنس البشري، لدى سأبدأ بطرح الأشكال الانتقالية بيننا وبين أشباه البشر من الأقدم حتى الأحدث، بدل أن أذكرها بالتسلسل التاريخي لاكتشافها، لكن في المقابل سأذكر تاريخ اكتشافها، لتتوضح الصورة في دهن القارئ.

تطور حجم جمجمة البشر عبر الزمن حسب علماء الأنتروبولوجيا
تطور حجم جمجمة البشر عبر الزمن حسب علماء الأنتروبولوجيا


أجناس ما قبل الإنسانيات “أشباه البشر” Homoniods Genus‏

Saheloanthropus Tchadenesis
Saheloanthropus Tchadenesis


Saheloanthropus Tchadenesis

استطاع علماء الأحافير الحصول على اقدم جمجمة لأسلاف البشر والشمبانزي تعود لقبل 7 مليون سنة، واطلقوا عليها Saheloanthropus Tchadenesis وترجمتها تعني شبيه البشر الساكن في منطقة التشاد. وهو ينتمي إلى جنس أو فصيلة تسمى Saheloanthropus وقد عاشت في حقبة تسبق البشر قبل حوالي 5-7 مليون سنة أي قبل ظهور الإنسان، ويعتقد العلماء أنه يمثل السلف المشترك بيننا وبين الشمبانزي نظرا للتشابه التشريحي الواضح بيننا وبينه. كما أنه يقطن أعالي الأشجار ويجيد التسلق ويندر وجوده على الأرض ونادرا ما يسير عليها، فحياته كانت شجرية معظم الأوقات لأن إفريقيا في ذلك العصر  كاتن كثيفة الأشجار في أغلب مناطقها لكن الأمر تغير بسبب التغيرات المناخية الكبرى مما أثر جذريا على تطور أسلاف البشر وعلى طريقة تكيفهم. حيث تميزت تلك الحقبة بتباعد الأشجار التدريجي عن بعضها البعض مما وسع المساحات بين الأشجار الذي أدى بدوره  إلى تغير نمط الكائنات الشجرية Saheloanthropus مثلا، نضيف أيضاً ظهور حقول السافانا الأفريقية التي غطت المساحات الأرضية الخالية من الأشجار وكان لها الأثر الأكبر لتطور أسلافنا من آبائهم حسب زعم الداروينيين الجدد. ‏أجبر التباعد الشجري التدريجي الى إجبار أسلافنا على النزول للأرض ومحاولتهم الحصول على أنواع غذاء أخرى أسفل الأشجار وأدى ذلك أيضا إلى خاصية المشي على قدمين بالأرض والتسلق معاً.

Ardipethicus Ramidus
Ardipethicus Ramidus

Ardipethicus Ramidus

تم اكتشاف الأحفورة التي أطلقوا عليها اسم Ardipethicus Ramidus أو Ardi “آردي” في عام 1994م في أثيوبيا وهو الذي انشق من سلفه Saheloanthropus Tchadenesis قبل 4.4 مليون سنة. ينتمي آردي إلى جنس من الكائنات تسمى Ardipethicus وهي كلمة من اللغة الأمهرية تعني الأرض وبذلك ترجمته تصبح شبيه البشر الأرضي، لأنه الأول من نوعه الذي استطاع المشي على قدمين وفي نفس الوقت يستطيع تسلق الأشجار بمهارة تفوق أسلافه. فقد ‏كان آردي يحصل على طعامه من ثمار الأشجار غالبا، ويستطيع كذلك أن ينزل إلى الأرض ويتغذى على ما يجده عليها من خشاش ونحوه، مما مكنه التكيف مع بيئته قليلة التشجير. لكنه بحسب الدراسة التشريحية لأقدامه لا يستطيع أن يملك مهارات المشي المتقدمة كالقفز والجري وحتى الهرولة، كما لا يستطيع المشي لمسافات طويلة.

Australopithicus Afarensis
Australopithicus Afarensis

Australopithicus Afarensis

تم اكتشاف ‏المستحاثة التي أطلق عليها اسم Lucy “لوسي” أما اسمها العلمي فهو ‏Australopithicus Afarensis اكتشفت بعام 1974م وكانت تقطن افريقيا وانحدرت من أسلافها السابقين قبل 3.2 مليون سنة، وهي السلف المشترك لجميع فصائل وأجناس الإنسانيات وأول من استطاع المشي منتصبة القامة بإتقان بعد ظاهرة تباعد الأشجار واستحواذ حشائش السافانا على المنطقة الإفريقية، لكنها لا تستطيع الركض وفقدت بعضاً من مهارات أسلافها كتسلق الأشجار. تنتمي لوسي إلى جنس من أشباه البشر يسمى Australopithicus سكن قبل حوالي 3-4 مليون عام،  ويعني اسمها أشباه البشر الجنوبيون الذين ينتمون إلى منطقة “آفار” Afar، وذلك لاماكن اكتشافهم وتواجدهم بجنوب القارة الإفريقية. يبلغ متوسط طول لوسي حوالي المتر تقريباً أي أقصر من الإنسان الحالي، كما أن جمجمتها تسع حوالي 390 سم٣ وهي أكبر بشكل ملحوظ من سابقاتها من المستحاثات التي ذكرناها. كذلك سحنات وجهها تتقارب مع سحنات القردة العليا وهو بروز الوجه والفك من الجمجمة وهذه الصفة غير موجودة إطلاقا لدى البشر الحاليين حيث أن وجوهنا تميل للتسطح. لكن عظامها الصدرية والأقدام ومنطقة الحوض تتشابه بشكل كبير من عظام البشر بنفس المناطق المذكورة!

Australopithicus africanus
Australopithicus africanus

Australopithicus africanus

نأتي الآن لمستحاثة ‏Australopithicus africanus ، حيث ‏اكتشف منها أحافير كثيرة كان اخرها عام 1992م في جنوب افريقيا وكان يعيش قبل حوالي 2-3 مليون سنة. ‏ينتمي A.africanus ويسمى أيضا Taung Boy نسبة لأول منطقة اكتشف فيها إلى نفس فصيلة لوسي لكنه نوع مختلف، ويتوقع العلماء أنه انحدر من سلفه لوسي قبل 3 مليون سنة، ولاحظ العلماء زيادة في حجم الجمجمة مقارنة بلوسي فحجم جمجمته وصل إلى 430 سم٣ وهذا يدل على زيادة قدراته الذهنية مقارنة بأسلافه ، أما طوله فهو قريب من طول البشر الحاليين وذلك بسبب زيادة في طول عظام الفخذ والساق مقارنة بلوسي. كذلك ‏استطاع هذا الفتى الافريقي A.africanus المشي افضل من سلفه لوسي زيادة على القدرات الذهنية المتقدمة كما أسلفنا، حيث استطاع أن يتكيف مع بيئته اكثر. كما ‏يعتبر A.africanus هو السلف الأحدث والأخير قبل بروز عائلة الانسانيات من جميع الاكتشافات حتى الآن، حيث انشقت منه بدايات السلالات البشرية وعرق الإنسان.

 جنس الإنسانيات Homo Genus

 
Homo Naledi
Homo Naledi

Homo Naledi

إنسان ناليدي Homo Naledi وهو أول وأقدم إنسان ينتمي إلي فصيلة الإنسانيات تم اكتشافه حتى يومنا هذا ، حيث أنه عاش قبل حوالي مليون إلى مليوني سنة. تم اكتشافه صدفة في سبتمبر 2013 في كهف يسمى Di-Naledi بجنوب إفريقيا ولذلك سمي الكائن باسم الكهف، الذي اكتشف فيه، واستغرق الحفر في هذا الكهف الصغير أسابيع عدة بمساعدة الكثير من المتطوعين. استغرق تجميع أجزاء عظامه وترميمها أربعة أسابيع، بسبب صعوبة دخول الكهف، استخدم العلماء متطوعين شبان ذوي أحجام ضئيلة يمكنهم الدخول مستخدمين كاميرات فيديو ليلاحظ العلماء كل تحرك لهم والتأكد من سلامة كل عظمة يستخرجونها. بعد فحص ناليدي جيدا ودراسة عظامه اكتشفوا انه ينتمي إلى جنس الإنسان Homo ، وأن هذا الكهف الذي دخلوه ما هو إلا مقبرة كان يستخدمها ناليدي لوضع موتاه هناك ودفنهم، وهذا يدل على سلوك من التفكير الرمزي المعقد، واهتمامهم بحرمة الميت، كذلك الكهف كان مظلماً جداً فكيف استطاعوا دفن هذه الجثث وترتيبها في تلك الظلمة دون استخدامهم لنوع من الإضاءة كالمشاعل أو النار؟ وكان هذا الاكتشاف عظيماً لأنه يبين المرحلة الأولى التي ظهر فيها الإنسان وتطوره من أسلافه. يبلغ طول ناليدي حوالي 150 سم أي متقارب جدا من متوسط طول البشر الحاليين، كذلك يستطيع استخدام يديه لصنع الأدوات، ويبلغ حجم جمجمته حوالي 460 سم٣ أي بحجم البرتقالة تقريبا، رغم ذلك قدراته الذهنية متقدمة عن أشباه البشر الذي تم ذكرهم مسبقا.
نلاحظ من السرد السابق وجود ثلاث فصائل شبه بشرية ظهرت قبل الإنسان Homo وهي Saheloanthropus و Ardipethicus وأخيرا Australopethicus وكل واحد منهم يمتلك قدرات متقدمة عن سابقه، ومن هنا سننطلق إلى أنواع الإنسانيات الأخرى وصولاً إلى البشر الحاليين الإنسان العاقل Homo sapiens

Homo habilis

Homo habilis
Homo habilis

 

الانسان الحاذق أو Homo habilis هو ثاني أقدم فصيلة من الإنسانيات بعد إنسان ناليدي، وتم اكتشاف احافير كثيرة له أحدثها عام 2007م في أفريقيا. ‏عاش الانسان الحاذق قبل حوالي 1.5 مليون سنة وجمجمته كانت أكبر من سلفه “ناليدي” حيث تسع حوالي 550  سم٣ وهذا يدل كبر دماغه عن سلفه A.africanus وبشل بديهي تقدم قدراته العقلية. بدأت تتشكل أول الملامح الإنسانية مع تطور الانسان الحاذق من سلفه، حيث كان يعيش حياة اجتماعية ميزته عن القردة العليا أو أشباه البشر. وتميز الانسان الحاذق باستخدام الأدوات البدائية التي كان ينحتها من الصخور ويستخدمها في قتل اعداءه وتقطيع فرائسه. انحدر من الانسان الحاذق بقية فصائل الانسانيات الأخرى الأكثر تطوراً حتى وصولنا اليوم على الوجود على الأرض. امتلك أياد أطول من أياد البشر الحاليين، كما أن طوله متقارب من متوسط طولنا، كذلك تقلص البروز الوجهي الذي جعله مشابها للبشر أكثر من أسلافه أشباه البشر.
Homo ergaster
Homo ergaster

Homo ergaster

انشق من الانسان الحاذق الانسان العامل أو ما أسماه العلماء Homo ergaster الذي كان يعيش قبل 1.2 مليون سنة. وقد ‏اكتشف العلماء الكثير من جماجم الانسان العامل H.ergaster في سهول افريقيا الجنوبية وحتى كينيا في أعوام مختلفة. أول أحفورة له اكتشفت بعام 1949م بجنوب أفريقيا وآخر أحفورة تم اكتشافها كانت بعام 1984م في بحيرة توركانا Turkana Lake ‏وجد حجم جمجمة الانسان العامل أكبر من سابقه الإنسان الحاذق حيث ان جمجمته تسع 700سم٣ وهذا يدل على تضخم حجم دماغه عن اسلافه تباعاً، وتقدم قدراته الذهنية بالمقارنة. كان الانسان العامل متقدماً على اسلافه من ناحية الذكاء والقدرات العقلية والتواصل الاجتماعي حيث استطاع تطوير اللغة للتواصل بين أبناء عشيرته. ‏استطاع الانسان العامل تطوير الأدوات الحجرية وجعلها افضل استخداما من سلفه الانسان الحاذق. من العلامات أيضاً المميزة للإنسان العامل هو تساقط شعر جسمه وظهور الغدد العرقية بشكل كبير وهذا الذي جعله يتكيف مع حرارة الجو اثناء الركض لمسافات طويلة. الإنسان بشكل عام يمتلك العدد الأكبر من الغدد العرقية على سطح جلده، وذلك يساعده على تنظيم حرارة الجسد وتنظيم الأملاح كذلك، وهذا يندر لدى الثديات الأخرى فالكلب مثلاً يخرج لسانه أثناء الحر ليلهث مما يساعده على تلطيف حرارة جسمه.
Homo erectus
Homo erectus

Homo erectus

‏الانسان المنتصب او القائم كما أسماه العلماء ‏Homo erectus الذي وجدت له مستحاثات كثيرة في افريقيا آخرها كان عام 2013م. انشق الانسان القائم من سلفه الانسان العامل وتميز بكبر حجم جمجمته التي تسع أكثر من 850سم٣ من سلفه العامل، ونلاحظ هنا بشكل جلي في زيادة حجم جمجمة الإنسان كلما تقدم الزمن خلال ملايين السنين. ‏عاش الانسان القائم قبل حوالي مليون سنة في مختلف أرجاء القارة الإفريقية وساعده دماغه الكبير على تطوير ذكاءه للتكيف مع بيئته بشكل كبير. واستطاع الانسان القائم بدوره تطوير الأدوات الحجرية بدقة أكبر من سلفه، كما استطاع استخدام الحراب في الاصطياد والدفاع عن نفسه من أعداءه بالسهول الإفريقية. نضيف إلى ذلك أن للإنسان القائم القدرة على الركض لمسافات بعيدة مما مكنه اللحاق بفرائسه مهما كانت سرعتهم وذلك بعد إنهاكهم في الركض بعد فترة زمنية معينة، وهنا تطور ملحوظ، لأن الأسلاف البشرية التي سبقته كانت تفتقر إلى خاصية الركض السريع لمسافات طويلة. واستطاع أيضاً الانسان القائم بذكائه تطوير القدرة في الكلام للتواصل مع اقرانه لتحديد أماكن الإقامة والطرائد ونحوها من الظروف البيئية التي تساعدهم للتغلب على مشاق الحياة. ‏أهم منجزات الإنسان القائم هو اكتشافه للنار واستخدامها في طهي طعامه، مما ساهم  في تطور كبير في عمليات التفكير. بطهي الطعام يتمكن الدماغ من الحصول على سعرات حرارية أكبر بمجهود اقل، لأن طبخ الطعام يزيد من ليونته وسهولته بالهضم وكذلك يساعد على استخلاص السعرات الحرارية بمجهود وطحن أقل، مما ساعد على صغر حجم الفك وضعف العضلات الفكية المتصلة بالجمجمة، وبالتالي ساعد ذلك في نمو الدماغ لدى الانسان القائم وتمدده. يعتبر ‏الانسان القائم أول أنواع فصيلة الانسانيات التي تمكنت من مغادرة القرن الافريقي والهجرة الى اقاصي الصين ومن ثم جزيرة سومطرة بإندونيسيا.
Heidelbergensis Homo
Heidelbergensis Homo

Heidelbergensis Homo

أما أهم الإنسانيات المنحدرة من الإنسان القائم هو ‏إنسان هاديلبيرج Heidelbergensis حيث تم اكتشاف اول جمجمة له في عام 1907 في المانيا في منطقة تسمى هاديلبيرج فسمي نسبة إليها. اكتشف العلماء العديد من مستحاثات هايديلبيرج وكان آخرها عام 2005م اطلق عليه الاسم العلمي Homo Heidelbergensis كما أسلفنا آنفا. وتعتبر جمجمة انسان هاديلبيرج أكبر من سلفه الانسان القائم فوصل حجمها حوالي 1300 سم٣ وذلك يدل على حجم دماغه الكبير بالمقارنة مع بقية أنواع الإنسانيات الأخرى آنفة الذكر مما جعله ذو قدرات عقليه متفوقة على نظرائه. يعتبر ‏‏إنسان هاديلبيرج مهم لنوعنا البشري لأنه باعتقاد العلماء السلف الاخير لنا مباشرة حيث انشق منه عرقنا الإنسان العاقل، ولهذا سأستفيض في شرحه. بحسب ما وجده العلماء من مستحاثات لإنسان هاديلبيرج فإنه قد عاش على سطح الأرض قبل 200-600 ألف عام، وهنا يتضح لدينا قربه الزمني من ظهور نوعنا البشري الذي ظهر قبل حوالي 300 ألف سنة تقريباً. كما ذكرنا سابقاً ‏مقارنة بأسلافه يعتبر انسان هايديلبيرج متطور فكرياً حيث كان يصطاد فرائسه من الطرائد البرية في جماعات ويطهوها لاحقا باستخدام النار فقد ورث هذا العلم من سلفه الإنسان القائم. واستطاع انسان هايديلبيرج تطوير اللغة اكثر من سلفه حتى انه استطاع تمييز أكبر عدد من الأصوات مثلنا ‏ومنها تطور اجتماعياً وسلوكياً، فأصبح هناك علاقات وطيدة بين كل عائلة في نفس العشيرة يهتم أفرادها بشؤون بعضهم من ناحية الاعتناء بالأطفال والتربية والعناية في حالة المرض والتعاون في الطعام والشراب والكثير من الأمور الاجتماعية الأخرى التي نلاحظها في يومنا الحالي بيننا.
لذلك ‏تمكن إنسان هايديلبيرج من انشاء مجتمع ذو ثقافة قريبة منا نحن البشر، وكل ما طوره من صفات ساعدت على نشوء جنسنا البشري. ارتدى انسان هايديلبيرج أنواع مختلفة من جلود الحيوانات والصوف وكان اول من غطى اعضاءه التناسلية للتستر عن اقرانه. كما ‏‏طور صناعة الأسلحة وهو أول من صمم الرماح المستدقة بالأحجار الحادة مما ساعدت كفاءته في الصيد خاصة عن بعد عن طريق رمي الرمح. كذلك يعتبر هايديلبيرج من أول الكائنات الإنسانية التي تحمل سلوكاً دينياً، فقد كان يدفن موتاه بطقوس معينة، وكان يستخدم الصبغ والحلي لتزيين موتاه، وهذا ما يوضح بشكل بين أنه يؤمن بغيبيات معينة قد تمتلك طابعاً لأديان بدائية، وهذا كله كان قبل ظهور الإنسان الحالي بنصف مليون سنة. استفاد انسان هايديلبيرج من تفوقه الفكري في اللغة والأسلحة واللباس لغزو القارة الأوروبية التي كانت قارسة البرودة في تلك الحقبة، ولم يستطع أي نوع إنسان آخر زيارتها.
بذلك ‏اصبح هايديلبيرج يعيش في قارتين منفصلتين وهما ‏افريقيا وأوروبا، أدى هذا الاختلاف البيئي بين القارتين وافتراق عشيرتهما إلى نشوء جنسين من مختلفين من البشر. والنوعين الجديدين الذين  انحدرا منه هما انسان نيانديرثال  Homo Neandethal في قارة أوروبا ونحن أي الانسان الحديث Modern Human في قارة أفريقيا.
Neandethal Homo
Neandethal Homo

Neandethal Homo

سنبدأ بالحديث عن انسان نيانديرثال H. Neandethal الذي برز في أوروبا من سلفه هاديلبيرج Heidelberge الذي هاجر إلى أوروبا كما أسلفنا. وقد عاش Neandethal بأوروبا قبل حوالي 250 ألف سنة وكان ذلك نتيجة للبيئة القارسة البرودة التي عاشها أسلافه وهي تختلف بشكل كبير عن المناخ الإفريقي الجاف والحار. من أوائل الجماجم التي تم اكتشافها كانت في عام 1856م في أحد كهوف بألمانيا لواد كبير يسمى “نياندر” Neander ولم يعرف المكتشفين في ذلك الوقت لمن تعود هذه المستحاثة، وسمي نيانديرثال نسبة للمنطقة التي أكتشف فيها، وقد تم تحديد عمر المستحاثة فقد كانت لإنسان عاش قبل 300 ألف عام. منذ ذلك الوقت اكتشف العلماء الكثير من عظام Neandethal في أماكن كثيرة بالقارة الأوروبية من سهول سيبيريا شرقا حتى اسبانيا غرباً ومن منطقة الشام جنوباً حتى جنوب الجزر البريطانية شمالاً. كان آخرها سنة 2012م في اسبانيا حيث يعود عمرها حوالي 43 ألف عام، وهذا ما يثبت الفترة الزمنية التي عاشها نيانديرثال من قبل 300 ألف عام حتى 43 ألف عام، وبذلك يتضح أنه قد عاصر البشر الحاليين المسيطرين على الأرض قبل انقراضه تماماً. ‏كان حجم جمجمة النيانديثال اكبر من جمجمة أنواع الإنسانيات الآنفة الذكر كذلك تفوقت على حجم جمجمة الانسان الحالي حيث كانت تسع 1600سم٣ مما يدل كبر دماغه عنا نحن البشر، ويدل أيضاً على كفاءة قدراته العقلية. ‏عند مقارنة بجمجمة الانسان العاقل الحالي نجدها أكبر، لكن الناصية وهي الجزء الأمامي من الجمجمة التي تحوي تحت غطائها أهم مراكز الإدراك والتفكير والقدرات العقلية لدى الجزء الأمامي من الدماغ نجدها أكبر لدى الانسان العاقل بشكل ملحوظ وهذا ما جعل العلماء يعتقدون بتفوق العرق البشري في الذكاء والدهاء واللغة والتواصل الاجتماعي. نشأ نيانديرثال كما ذكرنا في أوروبا وانتشر في جميع ارجاءها، وكان يقتات غالبا على اللحوم ولا يعتمد على النباتات بشكل رئيسي لقلة توفرها في المناخ البارد الذي كان يكسو القارة الأوروبية في تلك الحقبة المسماة بالعصر الجليدي. وكان لباسهم سميكاً مصنوع من جلود الحيوانات ذات الشعر الكثيف مناسباً للبرودة الشديدة ويساعدهم في التكيف فيها. تعلم Neandethal أسلوب صناعة الحراب كما ورثها  من أسلافه وطورها وذلك مكنه من اصطياد طرائده في البراري الأوروبية الموحشة. كذلك ‏استخدم النيانديرثال النار للإضاءة والتدفئة وللطهو أيضا وطور استخدامها أكثر من أسلافه. كان متوسط طول النيانديرثال حوالي 1.6 متر أي أقصر بقليل من متوسط طول الانسان الحديث لكنه كان أثقل وزنا لاختلاف نوعية غذائه المعتمدة على اللحوم والشحم كما ذكرنا. وجد العلماء الكثير من الآثار التي تثبت أن للنيانديرثال معتقداُ دينياً، فبحسب ما اكتشف من مستحاثات، يتضح أن النيانديرثال كان يمارس نوع من الطقوس أو الشعائر قبل دفن موتاه، كتلبيس الميت أنواع من الحلي وصبغه ببعض المواد الملونة، والمذهل أن إنسان النياديرثال امتلك نوعاً من الروحانية والعبادات قبل ظهور الإنسان العاقل بكثير، فقد عاش النياديرثال في أوائل العصر الحجري Paleolithic age ، أي قبل حوالي 300,000 سنة كما أسلفنا.
في عام 1997م قام بعض علماء الجينات باستخراج بعض من الأحماض النووية DNA للنيانديرثال واستمر تحليلها لمدة أكثر من عقد من الزمان، حتى استطاعوا أخيرا رسم الخارطة الجينية الكاملة “الجينوم” للنيانديرثال، والمذهل هو التطابق بنسبة 99.5% بينه وبين الجينوم البشري، وهذا ما يدل على وجود سلف مشترك مباشر بيننا. ‏عاش النيانديثال حوالي 200 ألف سنة، ‏ولم يكن يعلم انه سينقرض بقدوم ابن عمه لأوروبا! ‏الا وهو الانسان العاقل!

Homo sapiens
Homo sapiens

Homo sapiens

أقدم ماعثر عليه من أحفورات للإنسان الحديث مثل بقايا أومو يرجع تاريخها إلى نحو 195.000 سنة ، وإنسان Homo sapiens idaltu قبل 160,000 سنة وبقايا إنسان Qafzeh قبل نحو 90.000 سنة وجميعهم يعتبرون من الإنسان الحديث . ولكن هؤلاء البشر الحديثين الأوائل يشتركون في بعض الصفات مثل عدم بروز عظام الجبهة بروزا كبيرا. ولكن في سنة 2017 تم العثور على جمجمة إنسان بدائي يعود عمرها لأكثر من 350.000 سنة في جبل "إيغود" بالمغرب. ويشكل هذا الاكتشاف ثورة علمية حقيقية، إذ أن عمر الإنسان العاقل قد قفز مرة واحدة مائة ألف سنة، من 200 ألف سنة الى 300 ألف سنة. ومن شأن هذا التطور أن يغير من البرامج الدراسية بل والرؤية إلى تطور الإنسان من الإنسان العاقل الى الحالي. قبل حوالي 150 ألف سنة، وعندما كان إنسان النيانديرتال منتشرا في عموم أوروبا وفي أقسام من آسيا الداخلية. نشأ جنس الإنسان الهومو سابينس Homo sapiens لأول مرة من الجد الأقدم لإنسان النيندرتال الذي بقي في أفريقيا - ثم نزح من أفريقيا إلى أوروبا مرة ثانية بعد تطوره إلى هومو سابينس قبل نحو 45.000 سنة.
عندما وصل الإنسان الجديد إلى أوروبا شكل تحدياً لوجود النيندرتال.وبدأ العد التنازلي لقدرة النياندتال على البقاء ومنافسة الإنسان الجديد. لا أحد يعرف بالضبط كيف حدث هذا، ولكن المستحاثات واللقى التي عثر عليها في أنحاء متفرقة من أوروبا تشير إلى أن الإنسان الجديد وصل إلى أوروبا من الشرق والجنوب الشرقي قبل حوالي 45 الف سنة، وعاصرا الإنسان الأقدم لفترة تقترب من 15 ألف سنة؛ وهي الفترة التي يصبح فيها إنسان النيانديرتال الأخير محشورا في منطقة شبه جزيرة إيبيريا، حيث تقع حاليا إسبانيا والبرتغال.
لا يوجد ما يدل على حدوث إبادة جماعية، لكن لربما خسر الإنسان الصراع على الطعام أو لربما اختلطا عرقياً مع الإنسان الجديد. ولكن الاحتمال الأخير يفترض أن يكونوا قد تركوا آثارهم الجينية في الإنسان الحالي، وهذا هو محل دراسات العلماء.
وبهذا أتمنى أن أكون قد وفقت في سرد فصول رواية الداروينيين لقصة تطور البشر. أنا عن نفسي أومن بأن الله قد خلق الإنسان خلقا كاملا تاما أما عن المستحاثات التي سبقته فماهي إلا أشباه أناسين أو بالأحرى أنواع من القرود المنقرضة وحتى الآن نحن نعرف أن هناك تكيف وطفرات داخل النوع الواحد لكن لم يثبت أبدا ان هذه الطفرات قد مكنت الكائنات أن تتطور من نوع إلى نوع آخر وكيفما كان الحال فلا أحد يمكن أن يجزم بأنه يعرف طريقة الله في الخلق هذا طبعا إذا كان يؤمن بوجود الله أما إذا كان ملحدا فسيقع في اشكاليات أكبر كتفسير نشأة الحياة نفسها والفصل في قضية الإنفجار الكمبري والبحث عن الحلقات الانتقالية إلى آخره من الاشكاليات التي لا حصر لها.
المراجع:
Human evolution, The Smithsonian’s National Academy of Natural History.
Heng, Henry H. Q. (May 2009). “The genome-centric concept: resynthesis of evolutionary theory”. BioEssays (Hoboken, NJ: John Wiley & Sons) 31 (5): 512–525. doi:10.1002/bies.200800182. ISSN 0265-9247. PMID 19334004.
Tyson, Peter (July 1, 2008). “Meet Your Ancestors”. NOVA scienceNOW. PBS; WGBH Educational Foundation. Retrieved 2015-04-18.
Dawkins 2004 “Find Time of Divergence: Hominidae versus Hylobatidae”. TimeTree. Retrieved 2015-04-18.
Ghosh, Pallab (March 4, 2015). “‘First human’ discovered in Ethiopia”. BBC News (London: BBC). Retrieved 2015-04-19.


التعاليق

أحدث أقدم