لا يتعرض الكندي لبيان قصة خلق هذا العالم بما فيها من غموض، ولا هو يجاري أفلاطون في خيالاته التي بين بها كيفية الخلق في قصة طيماوس، ولا يستهويه مذهب أرسطو في المادة العاشقة للصورة ولله، مما هو ادخل في باب التصوير الفني منه في باب النظر الفلسفي، ولا هو ينتفع بنظرية الصدور المعروفة منذ المذهب الافلاطوني الجديد (الافلاطونية المحدثة)، والتي أريد بها تقريب الشقة التي لا نهاية لها والتي تفصل بين الاله المتعالي البريء عن المادة وبين عالم المادة الجسماني المتكثر والمتغير، من طريق ملئها بعدد متناه من كائنات متوسطة متحددة في روحانيتها فجاءت في الحقيقة فشلا فلسفيا ودينيا، مادته الخيال، ولكن تشبث بها فلاسفة الإسلام بعد الكندي كما تشبث بها غيرهم من قبل.
حدوث العالم بين ارسطو والكندي
حدوث العالم بين ارسطو والكندي

ونجد لها صورة واضحة في الفلسفة الإسلامية على يد الفارابي، بل يضرب الكندي عن هذا وأمثاله صفحا ويكتفي بأن يقرر في وضوح وصرامة ما ثبت لديه بالدليل من القول بأن هذا العالم محدث من لا شيء "ضربة واحدة" في غير زمان ومن غير مادة ما، بفعل القدرة المبدعة المطلقة من جانب علة فعالة أولى، هي الله عز وجل.
ووجود هذا العالم وبقاؤه ومدة هذا البقاء متوقفة كلها على الإرادة الإلهية الفاعلة لذلك، بحيث لو توقف الفعل الفعل الارادي من جانب الله لانعدم العالم ضربة واحدة وفي غير زمان أيضا.
ودليل فيلسوفنا على حدوث العالم هو الدليل المستند إلى مبدأ التناهي، فكل ما تناهى من أحد أو من كلا طرفيه فهو محدث ثم أقام بعد ذلك دليلا رياضيا على أن العالم لا بد وأن يكون متناهيا، لذلك لا بد أن يكون محدثا. ويعد الكندي الجرم والزمان والحركة متلازمة ولا يسبق واحد منها الآخر. إن الجديد في هذا الرأي هو أن الكندي يعدها متلازمة في الحدوث وبالخروج من اللاشىء بفضل المبدع . إن مفهوم الزمان عند الكندي " مدة تعدها الحركة، فإن لم تكن حركة لم يكن هناك زمان" أما مفهوم الحركة فالكندي يعلقها بالمتحرك " إن لم يكن متحرك الذي هو الجرم لم تكن حركة." إن ما يهم الكندي توكيده على تلازم الحركة والزمان المتحرك -الجرم-  هو لأثبات إن لم يكن زمان لم يكن متحرك، وليبرهن على حدوث العالم عن طريق حدوث الزمان . يتضح لنا مما تقدم أن النظرية الكندية الفلسفية ذات براهين مهمة على حدوث العالم والزمان والحركة ولعلها أقوى رد على رأي ارسطو وبراهينه جميعا، وهو الدليل المشهور عن المعتزلة في عصر الكندي، ولكن الكندي يقيمه على أساس فلسفي واضح متين.
أما الفجوة الكبرى في مذهب أرسطو حول الاله هو عبارة عن فكر مجرد لا شأن له بالعالم وبين عالم مادي يتعشق الاله من غير أن يأبه المعشوق للعاشق أو يبلغ هذا العاشق موضوع عشقه، فإن هذه الفجوة تمتلئ عند الكندي بفضل ما يتصف به الله عنده من صفات الابداع والإرادة الحكيمة الفعالة الساري فعلها في الكون ومن فيض الجود والرحمة، بحيث يرتبط الله والكون في نظرة الكندي للوجود برباط فعل الخلق الحقيقي والتدبير الشامل والعناية الدائمة من جانب الله, وبرباط استجابة الكائنات من جانبها لتحقيق مقتضيات الإرادة المبدعة، وذلك يجريها على سنن الخلق وشهادتها بذلك لمنظمها الحكيم.
وهكذا يحل محل محل التحريك عند أرسطو الابداع الأصيل عند الكندي، ويحل محل عشق الكائنات المادية لمحركها عبادتها وشهادتها لموجدها. ويبرز أيضا ما شاع في روح الكندي المؤمنة من معنى الإسلام، إسلام الكائنات كلها لله.  

                                                                                                                   رسائل الكندي الفلسفية
                                                                                                                   أرسطو "الأرغانون"

التعاليق

أحدث أقدم