نجدد الترحاب بمتابعي مدونة محيط المعرفة مدونتكم الثقافية التي تهتم بنشر الثقافة في مختلف المجالات.
موضوع اليوم سنخصصه للحديث عن المعتزلة كحركة فكرية ثورية وكمدرسة فكرية.


المعتزلة كحركة فكرية ثورية ثقافية وكمدرسة فكرية
المعتزلة كحركة فكرية ثورية ثقافية وكمدرسة فكرية

المعتزلة كحركة فكرية ثقافية

إن تحليلنا لهذه النقطة سينصب على المعتزلة كمدرسة فكرية ثقافية، عاشت لحظات تاريخية، حملت فيها مشعل العلم، وحرية الرأي وعمقت الوعي، وبشرت بالتنوير وما تحمله من إيديولوجية متميزة، مما ترك في العقلية العربية أثرا عميقا.

فإنصافا للحقيقة، يتعين تسليط الأضواء الكاشفة عليها لإظهار المكانة التي تتبوأها لأنها رائدة الفكر الفلسفي، التي ظلت تحتضنه، وتحمل لواءه، قبل ظهور الفيلسوف الكندي الذي وجد البناء الفلسفي مركبا، من طرف المعتزلة، كما يؤكده 'مروة'، إن هذه النخبة أغنت العلم وعملت على نشره في كل البقاع والأصقاع، ونحن نعلم أن الجامعات الأوروبية والإسلامية قد اهتمت بفكرها كتراث إنساني خالد، وكبناء حضاري شغل اهتمامات المستشرقين.. وقد تولد عن ذلك إنعاش روح الثقافة ونموها، لتتجدد بين الفينة والأخرى، وإني لا أتوخى في هذا الطرح إلا إثارة للحقيقة وإنصافا لها، إذ يبدو جليا أن هذه النخبة لا تلقى العناية من المثقفين الذين ولوا ظهورهم لها، بل لوحظت محاولات لطمسها (كأنها لم تغن بالأمس)، إننا نخالها كمدرسة ذات أبعاد ثقافية، تهتم بكل أنواع العلوم الإنسانية، فقد ركزت على الإلهيات والطبيعيات والأصوليات والسياسيات، وبالتالي فقد تناولت الجدليات الثلاث (العلم والدين والمجتمع)، وتبعا لذلك فنحن لا نخالها فرقة من الفرق، ومن خالها فرقة فقد تجافى عن الحقيقة، لأن الفرقة الإسلامية، هي التي تشكل لنفسها أنظمة دينية محضة لها خصائصها  وطبعا لا نرتاب في أن الدين والدنيا لممتزجان، لا يفترقان في مختلف الممارسات وتباين السلوكات، على أصعدة مناحي الحياة، فكل منهما يتوقف عن الآخر، فالأعمدة الدينية مرتبطة بالمعاشات، إذ لا يعقل أن الإنسان يقيم صلاته... وهو غير قادر عليها مخمصة وظمأ ومرضا وجهلا، فكما أنه لا خير في عيش دنيوي بدون ارتباطه بالمقومات الدينية، فكذلك لا خير في حياة دينية، تتسم بالرهبانية والتواكل بدون ارتباطها بالعمل والفكر والمجتمع... وما يخدم الإنسانية جمعاء، لأنها حياة معطلة، والإسلام يكره التعطيل والمسلم المعطل، من هذه المعطيات يستحيل الفصل بين الدين والدنيا، وحينئذ نتجاوز الإطار الديني الذي تتحرك فيه الفرق كالمرجئة والشيعة والخوارج...

بيد أن المعتزلة لم يكن لها الفكر الضيق الأفق، بل تألقوا على مستوى التنظير، والمقارعة، والإقناع والبرهنة، والاستدلالية المنطقية تعتبر من سمات النظام الجامعي. كما نعتبرها من باب الاختصاص، وخصائص الفلاسفة، ولا كانوا مفترقين مع أهل السنة، ولا هم بعيدون عن الجماعة الإسلامية، كما يتخيله البعض، فهم ينبذون من أحسوا فيه بالعزوف الديني، بل كانوا يعلنون عليه الحرب كما فعلوا مع ابن حائط وابن الرواندي.

ويبدو أن الأوائل لم يفرقوا بين المدرسة والفرقة، لأنهم كانوا يطلقون على الشيعة والخوارج والمرجئة فرقا، كما يطلقونه على المعتزلة، وهيهات أن يتساوى الأمران، وقد يبررون هذا الخليط الفكري، كما يقول البغدادي لاعتقادهم بالنص النبوي الأتي:
إن بني إسرائيل قد افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، هي الجماعة.
وعلى كل فقد يتأذون به، ويشعرون بنوع من التحسر والأذى والتحامل، ولكنهم ماضون في بناء صرح العلم، غير مبالين بما يفتري به المتحاملون الذين يحاولون طمسهم، ويعملون على تدمير فكرهم وثقافتهم، وأنى لهم ذلك مصداقا لقوله تعالي:
يمحو الله ما يشاء ويثبت. 
وحيث أن الحركة الثقافية، التي تجسم فعلا تيارا فكريا بكل خصائصه التي تميزه عن التيارات الفقهية.
أو ما اصطلح عليه بعلم الكلام، فإننا نتساءل؟ هل نجد في هذه الحركة سمات تؤكد العقلانية التي ظهرت في القرن السابع عشر على يد ديكارت وسبينوزا واليوت أم لا؟ ذلك ما نحاول الكشف عنه في الآتي:

المعتزلة كنواة عقلانية 

إن المعتزلة بما يحملونه من فكر خلاق والمكانة العلمية التي يحظون بها على المستوى الأكاديمي وعلى المستوى الاستشراقي يظهر أن البيئة الذهنية لهذا الفكر تحمل إرهاصات نواتية للعقلنة، فتحليلهم لرؤية العالم وبنياتهالمكونة له تؤكد ذلك، فإذا كان ديكارت يقول: (إن أعدل شيء قسمة بين الناس هو العقل)، إضافة إلى ثنائية الكوجيتو وما تقوم عليه من مبادئ أدت بها نتائجها إلى الاعتقاد بصدق العقل، الذي يحرر كل إنسان عن أوهامه، وإن أي معرفة ما قد لا يتوصل إليها العقل، وبالعقل وحده يحصل العلم، وتدرك الأشياء قد جعله حكما وقاضيا، وسيدا على الإطلاق وما سواه من الخوادع، فهي خادعة بالرغم من ازدواجية الفيلسوف كانط صاحب الفلسفة النقدية.

فإن كان الأشعريون يعتمدون على اليقين والعقاد أحيانا ينطلق من (فريضة التفكير العقلي)كما ينطلق باشلار من ازدواجية العقل والتجربة، وابن سينا بدوره إنما ينطلق من الممكن والوجوب، فإن المعتزلة بدورهم يقررون، ويقولون بسلطان العلم، واعتباره أعظم هبة إلاهية لبني البشر، فهم يخضعون النقل للعقل لإدراك حقيقة يقررونها، ومن ثمة فهم الذين يقررون بأن العبادات خاضعة للأسماع وما سواها للعقل، كما قالوا بأن المعارف ضرورية، فكأنهم عقلانيون لا يختلفون نسبيا عن الثالوث الفلسفي الثلاث الذين وسموا بالعقلانيين، وإن المعتزلة كذلك هم الذين يؤكدون بأن المعارف كسبية.

ولعلنا مضطرون للإتيان ببعض الاستدلالات التي تؤكد مظاهر العقلنة عند المعتزلة نلخصها كما يلي:
  1. اعتمادهم على عمليتي الفهم والتفسير الذي يرصد مكونات الفلسفة لمفهوم رؤيا العالم و'غولدمان' نفسه يرصد هذا النهج ويوظف المفهومين في معرض تحليلاته الفلسفية وهذا على غاية من الأهمية، فليس بوسع أي كان أن يفعله، لأن ذلك يندرج في اختصاص الفلاسفة والمفكرين الكبار...
  2. تعرضهم لتحليل بنية رؤية العالم الذي يتشكل من المكونات التالية: الله/الكون/الإنسان.
  3. تحليلاتهم للعلاقات التي تربط بين هذه المكونات تحليلا ينبئ عن أصالة فكر أخاذ وتنوع ثقافي، وعقلنة أسلوب يكشف عن مدى إدراكهم لنظام الكون، وهذا الإدراك يتوقف عن مفاهيم تجريدية.
  4. إيمانهم باطلاقية العدل بكل تجلياته على كافة المستويات سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، وأخذهم بمبدأ النسبية في مجال الحرية، التي هي أساس في مبدأ الشورى والديمقراطية.
  5. مبدأ التمسك والأخذ بالتأويل الذي أفرز ثنائية العقل والنقل أو ما يسمى بالمعقول واللامعقول الذي يعتمد على البرهنة المنطقية للحسم في إدراك حقيقة ما أو إشكال ما.
قد يقال بأن المعتزلة قد عملوا على نشر مذهبهم بنوع من العنف وأشاعوه في أهل السنة... مما أدى إلى نوع من الاستبداد الفكري الأمر الذي عجل بنهايتهم قبل الأوان، وما تعاملهم بالقسوة مع الإمام ابن حنبل إلا مظهرا من مظاهر ذلك الاستبداد... وقد تكون الإجابة عن هذا الجانب المظلم في حياتهم، أن طبيعة الصراعات تؤدي حتما إلى هذه النتيجة بالأسف، ومع ذلك بالمقارنة مع التعامل الأوروبي لبعض من رجالاتهم وفلاسفتهم يبدو أن عنفهم لم يصل إلى درجة العنف الأوروبي.

وما إعدام سقراط ومحاكمة كاليليو وإهانة ديكارت ومحاكمة لامارتين وغيرهم إلا دليل على صدق ما نقول، وعلى كل حال أخطأ المعتزلة أم أصابوا، فقد أساء المجتمع العربي الإسلامي في حقهم...

التعاليق

أحدث أقدم