لقد سارت الفلسفة اليونانية على النهج الذي خطه لها سقراط حينما جعل غايتها الأولى والأساسية البحث عن "الماهيات" أو الجواهر الثابتة للأشياء، كماهية الحب والجمال وعن جوهر الأخلاق والفضيلة...

الفكر الإسلامي والفلسفة اليونانية
الفكر الإسلامي والفلسفة اليونانية

الشيء الذي دفع بـأفلاطون إلى تطوير نظرية الماهيات هذه فقال "بعالم المثل" المجردة التي يرجع إليها كل شيء في العالم المحسوس، وجعل غاية الفيلسوف إدراك ذلك العالم المجرد بصفة دائمة ومستمرة. ثم جاء المنطق الصوري الأرسطي يؤكد بصفة نهائية عزوف الفكر اليوناني عن التجربة والتقليل من شأن "الاستقراء" واعتباره من المستويات السفلى من المعرفة.

وهذا كله يتعارض كليا مع طبيعة الفكر الإسلامي انطلاقا من القرآن الكريم ومفكري الإسلام، ذلك الفكر الذي أثبت تشبثه الدائم بالتجربة واعتبارها مع العقل، عنصران لا ينفصلان ابدا في كل محاولة " للمعرفة الصحيحة". ومن تم جاء عزوف مفكري الإسلام عن الخوض في تفكير ميتافيزيقي أو البحث عن الجواهر كما كان يفعل الفلاسفة اليونان، وفضلوا البقاء ضمن ميدان التجربة خصائصها المحسوسة، كما قال كانط "التجربة هي الشرط الذي لا يرتفع في كل معرفة إنسانية صادقة".

كان سقراط يقصر همه على عالم الإنسان وحده وكان يرى أن معرفة الإنسان معرفة حقة، انما تكون بالنظر في الإنسان نفسه، لا بالتأمل في عالم النبات والهواء والنجوم. وما أشد هذا مخالفة لروح القرآن الذي يرى في النحل على ضألة شأنه محلا للوحي الإلهي، والذي يدعو قارئه دائما إلى النظر لتصريف الرياح المتعاقب، وفي تعاقب الليل والنهار والسحب، والسماء ذات النجوم، والكواكب السابحة في فضاء لا ينتهي. وكان أفلاطون وفيا لتعليم استاذه سقراط الذي قدح في الإدراك الحسي، لأن الحس في رأيه يفيد الظن ولا يفيد اليقين. وما أبعد هذا القول عن القرآن الكريم الذي يعد السمع والبصر أجل نعم الله على عباده، ويصرح بأن الله وتعالى سيسألهما يوم القيامة عما فعلاه في الحياة الدنيا. وقد فات هذا الأمر المتقدمين من علماء المسلمين الذين عكفوا على درس القرآن بعد أن بهرهم النظر الفلسفي القديم. فقرأوا القرآن على ضوء الفكر اليوناني. ومضى عليهم أكثر من قرنين من الزمان قبل أن يتبين لهم في وضوح غير كاف أن روح القرآن تتعارض في جوهرها مع تعاليم الفلسفة القديمة. كل ذلك انتهى بمفكري الإسلام إلى مناقضة الفكر اليوناني بعد أن أقبلوا في بداية حياتهم العقلية على دراسته في شغف شديد.

ذلك أنهم لم يفطنوا أول الأمر لتعارض جوهر القرآن مع نظرة الفلاسفة اليونان للوجود، وبما أنهم قد وثقوا بفلاسفة اليونان، أقبلوا على فهم القرآن في ضوء الفلسفة اليونانية. وكان لا بد من اخفاقهم في هذا السبيل لأن روح القرآن تتجلى فيها النظرة الواقعية، في حين تميزت الفلسفة اليونانية بالتفكير النظري المجرد واغفال المحسوس.  

التعاليق

أحدث أقدم