إن أحد أعظم الثورات العلمية لهذا العصر تسير باتجاه فهم آلية اشتغال الدماغ البشري، حيث تنصب حاليا جهود علماء الأعصاب على دراسة البنية الدقيقة للعصبونات، فيما يهتم آخرون بالكيمياء الحيوية للدماغ، دارسين كيف تنتج مليارات العصبونات التي في أدمغتنا آلاف الأنواع من البروتينات وكيف توظفها. وهناك فئة ثالثة، ويعد ويدين أحد ممثليها، تعكف على تحضير نماذج تمثيلية مفصلة بدقة عالية غير مسبوقة لوصلات المخ، أي شبكة الالياف العصبية المعروفة باسم "المادة البيضاء" والبالغ طولها 160 ألف كيلومتر والتي تربط بين المكونات المختلفة للدماغ وتولد كل ما نفكر به أو نحس به أو ندركه. 
كشف أسرار جديدة عن الدماغ


أما التقنية التي التي اعتمدها ويدين وتدعى "التصوير الانتشاري الطيفي" حيث يعتمر المتطوع خوذة موصولة بجهاز مسح يتطلب من الطاقة ما تتطلبه غواصة نووية تقريبا. تلتقط الهوائيات إشارات تنشأ عندما يعمل المجال المغناطيسي لجهاز المسح على إثارة جزيئات الماء في الدماغ، ومن ثم تقوم حواسيب بتحويل هذه البيانات إلى خرائط للدماغ.
 فتترجم الإشارات الإشعاعية التي تطلقها المادة البيضاء إلى أطلس شديد الدقة لشبكة المعلومات العصبية التي يمثلها الدماغ. إذ يرسم جهاز المسح خريطة لحزم الألياف العصبية التي تشكل مئات الآلاف من المسارات التي تنتقل المعلومات عليها من جزء من الدماغ إلى آخر. ويضيف ويدين العديد من الألوان على كل مسلك بشكل يبدو فيه الدماغ كما لوكان كتلة من الفرو المفعم بالألوان.
يركز ويدين على مسارات بعينها، كتلك الدارات العصبية الخاصة باللغة وغيرها من الأنماط الفكرية. ثم يخفي غالبية المسالك في الدماغ كي يتمكن من تنظيمها على نحو أفضل لتتراءى أمام العيون صورة مدهشة كتلك المعروضة في الأعلى.
فعلى الرغم من التعقيد الظاهري المتعب للدارات العصبية، فإنها تتقاطع جميعا مع بعضها بعضا بصورة متعامدة، كخطوط الورق المخصص للرسومات البيانية. يقول ويدين تعليقا على ذلك:" إنها جميعا عبارة عن شبكات من الخطوط المتعامدة".
وكان بعض النقاد قد شكوا بأقوال ويدين عندما كشف عن البنية التعامدية للدماغ عام 2012، متسائلين إن كان اكتشافه ذلك مجرد جزئية صغيرة من تكوين تشريحي أكثر تعقيدا وتشويشا.
لكن ويدين أصبح اليوم أكثر قناعة من أي وقت سابق بأن لهذا النموذج مغزى، فأينما نظر، في أدمغة البشر والقرود والجرذان يجد هذه الشبكة التعامدية. ويشير ويدين إلى أن أقدم الأنظمة العصبية والتي تجلت في ديدان العصر الكمبري (ما بين 541و485 مليون سنة مضت) إنما كانت عبارة عن شبكات بسيطة في شكل حبلين عصبيين يمتدان من الرأس إلى نهاية الذيل وبينهم وصلات شبيهة بدرجات السلم. أما في البشر فإن الأعصاب تتفرع إلى مليارات الألياف العصبية لكنها تشترك مع الأنظمة العصبية لتلك الديدان بالبنية الشبكية التعامدية نفسها. فمن الممكن أن تكون أفكارنا تجري عبر مسالك المادة البيضاء كإشارات من موضع إلى آخر في الدماغ تماما كما تجري السيارات في شبكات الطرق بالمدن.

                                                                        بقلم اختصاصي الدماغ والأعصاب نور الدين بلحاج

التعاليق

أحدث أقدم