يعتبر الإضراب الوجه الثاني للممارسة المطلبية للمنظمة النقابية بعد الحوار.
ترى ما هو الإضراب؟ ما هي وجهة نظر كل من السلطة العامة والمنظمات النقابية للإضراب؟ ومتى يتم الالتجاء إليه؟ وهل تعتبر ممارسته أمرا مشروعا؟
عن هذه الأسئلة وغيرها يحاول أن يجيب هذا الموضوع.


إضراب الموظفين
إضراب الموظفين

يعرف الدكتور محمد خيري مرغني الإضراب بأنه:
اتفاق بعض العمال على الامتناع عن العمل مدة من الزمن دون أن تنصرف نيتهم إلى التخلي عن وظائفهم نهائيا، وذلك بقصد استيائهم من أمر من الأمور، أو الوصول إلى تحقيق بعض المطالب، لاسيما المتعلقة منها برفع الأجور، أو تحسين ظروف العمل، أو المعيشة، وتوفير الحماية الاجتماعية والمساواة، والأجر العادل الذي يكفل للموظف ولأسرته العيش الكريم، وفوق هذا يعد وسيلة للضغط على المسؤولين عن العمل لإيجاد الحلول الملائمة للمطالب المقترحة. 
والإضراب أنواع منها: الإضراب العام، إضراب الموظفين كموظفي الصحة والتعليم والبريد... وإضراب الطلاب، وإضراب التجار...
وللقيام بالإضراب يتوجب اتباع الإجراءات التالية:

  1. وجوب الإعلان المسبق عن الإضراب، وأسبابه، ومدته، وذلك بخمسة أيام على الأقل من طرف النقابة أو النقابات المؤطرة والداعية لخوض الإضراب، بعد أن تفشل في تحقيق مطالبها بالطرق الأخرى والتي على رأسها الحوار.
  2. وجوب توضيح الدوافع الداعية للإضراب، للمستفيدين من المرفق، أو المرافق العامة خاصة وللرأي العام عامة.
  3. يتحتم أن يكون الإضراب مؤطرا من طرف النقابة أو النقابات الداعية لخوضه، ومنظما تنظيما محكما حتى يمكن تجنب بعض مظاهر العنف والفوضى التي تمس أحيانا بسلامة وحرية الآخرين.
  4. يشترط أن يكون الإضراب من أجل هدف مشروع؛ كالمطالبة بتحسين ظروف العمل أو الزيادة في الأجور مقابل ارتفاع الأسعار. والا تكون وراءه أي أهداف سياسية.
  5. ينبغي ألا يلجأ إليه إلا بعد استنفاذ جميع الوسائل التي من شأنها تجنبه، والمتمثلة في الحوار والمذكرات المطلبية...
  6. يجوز للإدارة أن تجند بعض الموظفين اللازمين لتسيير بعض المرافق الضرورية كأقسام المستعجلات بالمستشفيات مثلا، شريطة أن يكون هذا التجنيد بالقدر اللازم لاستمرار المرفق العمومي، ويحق للنقابة مقاضاة الإدارة إذا ما تأكد لها أن ذلك التجنيد لم يكن بالقدر اللازم، وكان الهدف منه تكسير الإضراب، أو كان عن طريق الضغط، وذلك لاعتباره تعديا على حق يضمنه الدستور.
  7. مراعاة احترام إرادة العاملين والمضربين معا وعدم التعرض لهم بأي سوء.
يعتبر الإضراب بالمغرب من القضايا التي حظيت باهتمام كبير من لدن المهتمين، سواء على صعيد المجال القانوني والإداري أو على الصعيد الحكومي أو النقابي، داخل المغرب وخارجه.وبيت القصيد في هذه القضية أن مبدأ استمرار المرفق العام يحتم على السلطة المسؤولة ضمان سير المرفق بانتظام واطراد رغم العراقيل الموجودة... وكل انقطاع في سير المرفق يعتبر متنافيا مع الهدف المتوخى منه.. والتزام السلطة الإدارية بضمان سير المرفق العام يلتقي مع حق المنتفعين من المرفق بالحصول على خدمات مستمرة من جهة، ويتعارض مع حق العمال في الإضراب الذي هو الامتناع عن العمل لبعض الوقت من جهة ثانية.

أمام هذا الإشكال فقد اقتضى نظر السلطة العامة ترجيح ضمان سير المرفق العمومي، وذلك بالاعتماد على تطبيق مقتضيات الفصل 5 من مرسوم 2 فبراير 1958. الذي ينص على أن:
كل توقف عن العمل بصفة مدبرة، وكل عمل جماعي أدى إلى عدم الانقياد بصفة بينة، يمكن المعاقبة عنه علاوة على الضمانات التأديبية، ويعم هذا جميع الموظفين، وأكد هذا الطرح منشور الوزير الأول الصادر بتاريخ 9 جمادى الأولى 1399 الموافق 7 أبريل 1979 تحت رقم 319/د قبيل الإضراب الذي خاضه رجال التعليم والصحة العمومية أيام 10 و 11 أبريل من نفس السنة أي 1979.
ونفس الموقف تم التعبير عنه من طرف الحكومة في جواب لها عن ملاحظات لجنة التحريات النقابية التابعة للمنظمة الدولية للشغل بتاريخ 8 دجنبر 1979 تحت عنوان: التوقف المدبر عن العمل.

وبهذا فقد اختار الخطاب الرسمي -كما عبر عن ذلك الأستاذ محمد الشرقاني- الطعن في مشروعية إضراب الموظفين، بالاعتماد على مبررات عتيقة تتراوح ما بين التذرع مرة بغياب القانون التنظيمي، ومرة أخرى بمرسوم 2 فبراير 58 (فـ. الخامس) أو تركيب التبريرين معا ليصبح هذا المرسوم، وبطرح غير سليم قانونا، البديل التشريعي للقانون التنظيمي الغائب، وهي التبريرات التي عرفت انتعاشا كبيرا خاصة بمناسبة إضرابات أبريل 79 ويونيه 81.
والتي تجد سندها ومبررها في حكم المجلس الأعلى الصادر بتاريخ 17 أبريل 1961 (قرار الحيحي محمد ضد وزير التربية الوطنية) القاضي بأن سلطة رئيس الحكومة في إصدار مرسوم 2 فبراير 1958 مستمدة من سلطته التنظيمية في اتخاذ التدابير اللازمة والضرورية لسير مجموع المرافق العامة، وبالتالي للسلطة التنظيمية تحريم الإضراب نظرا لانعدام وجود أي نص اسمي يحلله، كان هذا قبل صدور النص الأسمى الذي هو الدستور. ثم صدر الدستور، ونص في فصله 14 على أن حق الإضراب مضمون وسيبين قانون تنظيمي الشروط والاجراءات التي يمكن معها ممارسة هذا الحق.

ورغم ذلك ظل التيار المعارض للإضراب متمسكا بعدم مشروعية إضراب الموظفين مستندا على النص الفرنسي للفصل 14 الذي ينص بالصيغة الفرنسية على أن حق الإضراب يبقى مضمونا:
 (Le droit de gréve (demeure) garanti)

وبالتالي فإن العاملين بالمرافق العمومية ليس لهم الحق في ممارسة الإضراب لأن الإضراب (يبقى) مضمونا لأولئك الذين ظلوا يتمتعون بهذا الحق قبل دستور 1962. وهم العاملون في المشروعات الخاصة والمتمتعون بهذا الحق منذ عهد الحماية.

ومقابل هذه الطروحات التي حاولت تحجيم مشروعية الإضراب نجد طرحا آخر معارضا للطرح الأول يتزعمه التيار النقابي وتسانده طائفة عريضة من فقهاء القانون، يحاول التمسك بمشروعية إضراب الموظفين ويستند إلى معطيات تمخضت عن معطيات التيار الأول وانصبت في مجملها باتجاه واحد ألا وهو التمسك بحق الإضراب الذي ينص عليه الفصل 14 من الدستور ورفض مقتضيات الفصل 5 من مرسوم 2 فبراير 58 واعتباره لاغيا. وقد استندوا في هذا إلى:
كون النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية الصادر في 24 فبراير 1958 أي بعيد المرسوم المتحدث عنه بـ 22 يوما والذي لم يشر لا من قريب ولا من بعيد لموضوع الإضراب يجعل المرسوم لاغيا، بناء على القاعدة القانونية المعمول بها والتي تجعل كل نص لاحق من شأنه إلغاء النص السابق ما لم يشر إلى ذلك.
بالإضافة إلى كون النظام الأساسي العام يتمتع بعلويته من الناحية القانونية على المرسوم انطلاقا من الفصل 45 من الدستور.

وإذا كان المغرب وابتداء من سنة 1962 قد دخل مرحلة إيجاد الـدساتير المكتوبة التي وضعت أسس بناء الدولة الحديثة فإننا نجد الفصل 14 الضامن لحق الإضراب قد تكرر وبنفس العبارة في دستوري 1970/72 و 1992 وليس لهذا من تفسير إلا التأكيد على مشروعية الإضراب، والتأكيد على مشروعية الإضراب يعني إلغاء الفصل 5 من مرسوم 2 فبراير 58 تماشيا مع حيثيات الحكم القضائي الصادر عن المجلس الأعلى باعتبار سمو الدستور ورفعته عن المرسوم المشار إليه الذي اعتبر لاغيا وغير دستوري بمجرد صدور الدستور، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن مرسوم 1958 ليس من شأنه بحسب قيمته القانونية ومسطرة إصداره أن يكون بديلا عن القانون التنظيمي الذي وعد الدستور بصدوره، (القانون التنظيمي المقصود هو الصادر عن مجلس النواب وفق مقتضيات (ف.57) من الدستور. ويتم إبلاغه إلى الغرفة الدستورية التي لها حق النظر في المطابقة مع الدستور).

ولا أعتقد أن عزوف المشرع عن إصدار القانون التنظيمي يهدف إلى تحريم الإضراب على الموظفين بقدر ما يهدف إلى الإقرار بمشروعيته ويمكن أن يستشف هذا من خلال النصوص التشريعية التي تحرم الإضراب صراحة على أصناف معينة من الموظفين الذين يعتمد عليهم في إقرار سلطة الدولة، والمحافظة على النظام العام كما هو الشأن بالنسبة لمتصرفي وزارة الداخلية والعسكريين ورجال الشرطة وموظفي إدارة السجون ورجال القضاء، وغيرهم من العاملين بالمرافق ذات الصبغة العسكرية، كالقوات المساعدة ورجال الجمارك والأمن الوطني والدرك الملكي...

ولعل استثناء المشرع للأصناف السالفة الذكر من الموظفين وتحريم الإضراب عليها صراحة والسكوت عن هذا التحريم لباقي الموظفين لخير دليل على مشروعية الإضراب.
وفي مقابل الرأي القائل بالأخذ بصيغة النص المكتوب بالفرنسية نجد الموقف المؤيد للإضراب ينطلق من كون المغرب بلدا عربيا ولغته العربية وفي حالة تعارض النصين الفرنسي والعربي يتم ترجيح النص العربي باعتبار العربية لغة البلد الرسمية.

وقد سلكت فئة أخرى مسلكا مخالفا حيث اعتمدت تفكيك بنيات نص الفصل 5 من المرسوم المذكور. محاولة الكشف عن البنى الهشة لهذا الفصل. فرأت في المقطع الأول (كل توقف عن العمل بصفة مدبرة) أن كلمة مدبرة لغة تعني التفكير في أمر معين والسعي فيه عن طريق الاحتيال، ولما كان الإضراب مؤطرا من قبل هيئات نقابية مرخص لها ومعترف بها قانونا ويتم الإعلان عن أسبابه ومدته، وموعده. بوسائل شتى، فقد أمكن استبعاد مفهوم الاحتيال لعدم مطابقته للإضراب كسلوك مسؤول يضمنه الدستور.

أما المقطع الثاني المتضمن عبارة (وكل عمل جماعي أدى إلى عدم الانقياد بصفة بينة يمكن المعاقبة عنه). فعبارة الانقياد بصفة بينة تدل على الامتثال حيث تقول العرب انقاد فلان لفلان أي خضع وذل وأذعن، وأطاع وانصاع. وكلها تدل على الطاعة، إلا ما يجب التنبيه إليه أن الإضراب لا يتنافى مع واجب الطاعة البينة المسلم به في المجال الوظيفي باعتبار كونه من الواجبات. وقد حدده المشرع في الفصل 17 من القانون الأساسي للوظيفة العمومية في:
احترام النصوص الدستورية والتشريعية، وتنفيذ التعليمات المرتبطة بالممارسات المهنية المنوطة بالموظف.

ومن هنا كان الإضراب ممارسة مشروعة لا تخرج عن مفهوم الطاعة المشار إليه. وتعبيرا مباحا عن الاستياء بعد فشل الوسائل المتاحة التي يتصدرها الحوار.

وبالنسبة للشق الثالث من (ف.5) مرسوم 2 فبراير 58 المتحدث عنه: يمكن المعاقبة عنه علاوة على الضمانات التأديبية، فقد طرحت مجموعة من التساؤلات المتعلقة بالجهة التي ستتولى إنزال هذه العقوبة، وهل يتعلق الأمر بعقوبة إدارية أم جنائية؟ وإذا تعلق الأمر بالأولى فمن يقوم بتطبيقها؟ الإدارة أم المجلس التأديبي؟ أما وقد تعلق الأمر بالقضاء. ما هو النص؟ وإذا انعدم النص انعدمت العقوبة تطبيقا للقاعدة:
لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص.
ولعل مما زاد من تدعم كفة الاتجاه المتمسك بمشروعية الإضراب أن كثيرا من المواثيق الدولية جاءت مؤيدة له ومنسجمة معه. فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته 11 نص على أنه يجب ألا يجبر أحد على القيام بعمل بدون رضاه، وبالتالي لا يجوز معاقبته على الامتناع عن أداء عمل معين، وفوق هذا لا يدان أي شخص من جراء أداء عمل أو الامتناع عن أداء عمل. إلا إذا كان ذلك يعتبر جرما وفقا للقانون الوطني أو الدولي...
ونفس المسلك أكدته الفقرة (د) من المادة الثامنة لاتفاقية 87/88 الدولية لـحقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المنبثقة عن المنظمة الدولية للشغل التي تؤكد على أن تتعهد الدول الأطراف في الاتفاقية أن تكفل الحق في الإضراب على أن يمارس طبقا لقوانين القطر المختص.

وإذا كان المغرب قد صادق على هذه الاتفاقية كما صادق ومنذ سنة 1979 على الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية التي تسير هي الأخرى في نفس الاتجاه. فإنه لا يسعنا إلا أن نقف موقف المؤيد للاتجاه المتمسك بمشروعية الإضراب وندعو إلى إيجاد نص صريح ودقيق  يحدد الإطار القانوني لممارسة الإضراب بشكل دقيق وواضح يحد من صراع ظل محتدما قرابة أزيد من 30 سنة. وبالتالي يعمل على ترسيخ دعائم الديمقراطية  والنهوض بدولة القانون التي نأمل أن تتبلور دعائمها في ظل الدستور الجديد.

المرجع: 
مجلة آفاق تربوية العدد 8-9 / 1994

التعاليق

أحدث أقدم