أجسادنا تتساقط و هي تمشي .. في كل لحظة هناك شيء يتساقط منها. العدم كامن في الوجود .. كامن في أجسادنا .. كامن في إحساساتنا و مشاعرنا. الخوف .. الشك .. التردد .. القلق .. الكسل .. التراخي .. اليأس .. القنوط .. كل هذه علامات سكون في الشعور
.. كلها إحساسات عدمية تفسيرها الوحيد أن هناك فجوة في تكويننا .. فجوة نراها بعين الشعور فنخاف و نجزع و نقلق. فجوة نطل عليها من داخلنا و إن كنا لا نراها بعيننا الواعية .. و لا نتذكرها إلا حينما يقال لنا .. فلان مات شيء عجيب و نمصمص شفاهنا .. ثم ننسى كل شيء و نعود إلى حياتنا الآلية .. و لكن عيننا الداخلية تظل مطلة على هذه الفجوة .. و باطننا يظل يرتجف من هذا القلق المبهم..
لغز الموت
لغز الموت
   الموت بالنسبة لكل منا .. أزمة .. و سؤال .. يبعث على الدهشة و القلق .. والذعر. و لكنه بالنسبة للكون شيء آخر. إنه بالنسبة للكون ضرورة و فضيلة .. و خير. الموت و الحياة حينما ننظر لهما من بعيد .. و هما يعملان في الكون يظهران و هما يخلقان الواقع. الموت يبدو مكملاً للحياة .. يبدو كالبستاني الذي يقتلع النباتات الفاسدة و يسوي الأرض و يحرثها ليفسح المجال للبذور الصغيرة الرقيقة لتطرح ثمارها.
   يبدو كالرسام الذي يمحو بفرشاته خطاً ليثبت على اللوحة خطاً جديد أفضل منه. يبدو خالقاً في ثوب هدام .. فهو يهدم حائط الجسد .. لأن خلف الحائط يوجد ماء الحياة الجاري. حاول أن تتخيل الدنيا بلا موت .. الدنيا من أيام آدم .. و المخلوقات و هي تتراكم فيها .. و لا تموت الناس .. و الذباب .. و الضفادع .. و الحشائش .. و الديدان .. و هي تتراكم .. و يصعد بعضها على أكتاف بعض .. حتى تسد عين الشمس. إن الحياة تبدو شيئاً كالاختناق. إن الكائن الحي يحب نفسه فقط .. و يحب اللحظة الصغيرة التي يعيشها و لهذا يكره الموت .. و لكن الموت يحب كل اللحظات و يحب الزمن .. و يحب المستقبل .. و لهذا يتساقط الناس من غرباله كالنشارة
ليقوم على أشلائهم ناس آخرون أحسن منهم و هكذا دواليك. الموت هو عملية المونتاج التي تعمل في الشريط الوجودي كله فتقصه إلى عدة لقطات واقعية .. كل منها له عمر محدود. و الموت يخلق واقع الأشياء الجامدة أيضاً كما يخلق واقع المخلوقات الحية.
الأشياء الجامدة لها نهاية .. و العين تدركها لأن لها نهاية .. نهاية في الطول و العرض و العمق . و لو كانت لا نهائية في طولها و عرضها و عمقها لاختفت .. و لأصبحت عالية في الإدراك .. غير موجودة إن التناهي هو الذي يوجدها. و التناهي هو الموت.
كل ما في الكون من إنسان و حيوان و نبات و جماد إذن متناهٍ له حدود . الموت يأكل أطرافه . و يقص حواشيه .. و يبرزه .. و يوجده و يخلقه في نفس الوقت. الموت فضيلة و خير بالنسبة للكون كله لأن به تكون الأشياء موجودة و تكون المخلوقات مضطربة
بالشعور و الحياة. و لكنه شر الرذائل بالنسبة للإنسان الفرد .. بالنسبة لك أنت .. و لي أنا .. لأنه ينفقنا كضرائب إنشاء و تعمير .. و يقدمنا قرابين على مذبح الوجود. و نحن لا نفهم هذا النوع من القربان .. و لا نستطيع أن نفهمه لأنه قربان فظيع .. و تضحية معناها أن نموت و نهلك. نحن نعيش في مأساتنا الشخصية .. و نرى الموت كفجوة تفغر فاها تحت أقدامنا فنتشبث بأي شيء نجده حولنا .و نتشبث بها و نحتمي من الجرف الذي ينهار تحتنا. و نموت .. و لكن بعد أن نكون قد زرعنا صورتنا في جسدها و قمنا بتهريب جزء من وجودنا عبر هذا الكوبري الجميل من اللحم و الدم .. الذي مدته لنا مع ابتسامتها.
إن الحب كله قصة جميلة .. مؤلفها الموت نفسه .. و ليس الحب فقط .. بل كل العواطف و الثروات و المخاوف و الآمال و شطحات الخيال و الفكر و الفن و الأخلاق .. كل هذه القيم العظيمة تدين للموت بوجودها. أعطني أي مثال أخلاقي .و أنا أكشف لك عن الموت في مضمونه. الشجاعة قيمتها في أن  تتحدى الموت. و الإصرار قيمته في أنه يواجه الموت . و هكذا كل مثل أخلاقي .قوته في أنه يواجه مقاومة .. و هو ينهار . و ينهار مضمونه حينما لا تكون هناك مقاومة في مواجهته. الفنان و الفيلسوف و رجل الدين ثلاثة يقفون على بوابة الموت. الفيلسوف يحاول أن يجد تفسيراً.. و رجل الدين يحاول أن يجد سبيلاً للاطمئنان. و الفنان يحاول أن يجد سبيلاً إلى الخلود .. يحاول أن يترك مولوداً غير شرعي على الباب يخلد اسمه . قطعة موسيقية أو تمثالاً أو قصة أو قصيدة.
كلنا يخلقنا الموت .. الموت المدهش. لو لم نكن نموت لما شعرنا بالحب . فما الحب إلا هيستريا التشبث و التعلق بالحياة .. و ما الداعي إلى أخلاق في مجتمع من الخالدين .. إن الأخلاق هي الخرسانة و المسلح الذي ندعم به بيوتنا المنهارة .. و نمسك به هياكلنا الفانية .. فإذا كنا من الخالدين لا نمرض و لا نموت و لا نضعف و لا يصيبنا شر فما لزوم الأخلاق. إن كل ما هو جميل و خير و حسن في مجتمعنا خارج من هذه الفجوة .. الموت. و كل ما هو جميل في إنسانيتنا خارج من هذه الفجوة أيضاً. إن حياتنا غير منفصلة عن موتنا .. فكل منهما مشروط بالآخر. و الأصدق أن نقول أنه لا توجد حالتان .. حياة و موت .. و لكن حالة واحدة هي الصيرورة .. حالة متناقضة في داخلها و محتوية على الاثنين معاً : الحياة و الموت..
  حالة متحركة نابضة صائرة من حياة إلى موت و من موت إلى حياة و في كل لحظة منها تحمل الجرثومتين , جرثومة نموها و جرثومة فنائها في نفس الوقت. و هما جرثومتان لا هدنة بينهما .. و لا تعادل و إنما صراع و توتر و تمزق و شرر متطاير مثل الشرر الذي يتطاير من قطبي الكهرباء السالب و الموجب حينما يلتقيان .. و هما مثلهما أيضاً .. تبعثان حرارة و نوراً .. هما العاطفة و الوعي اللذان يندلعان في عقل الإنسان الذي يعيش هذا الصراع بسالبه و موجبه و هو الصراع يبدو فيه العنصر الموجب أقوى من السالب .. و تبدو الحياة غلابة صاعدة منتصرة. كلام جميل .. و لكنه مع هذا كله لا يجعل الموت جميلاً في عيوننا. إنه يفشل حتى في الاعتذار لنا عن و افنائنا .. حتى و لو كانت في صالح الكون .. فمالنا و الكون .. نحن كون في ذاتنا .. و الموت ينتهك أطهر حرماتنا , نفوسنا .. أنا .. و أنت.
إن أجمل اللحظات في حياتي هي التي أقول فيها .. أنا فعلت .. أنا قدمت .. أنا أنجزت .. أنا اخترعت ..أنا .. أنا.. لا يوجد شيء في وجودي .. أو وجودك .. أغلى من هذه الكلمة الصغيرة .. أنا .. فكيف يمكن أن أتصور أن أموت.. إني أستطيع إحداث الموت .. أستطيع أن أقتل و أن أنتحر.. كيف يكون الموت أحد اختراعاتي ؟؟ وأن أكون أنا أحد ضحاياه في نفس الوقت.
                     أين اللغز الحقيقي .. أهو الموت .. أم هو هذه الكلمة الصغيرة .. أنا ؟..
  
                                                                                                  كتاب  لغز الموت

التعاليق

أحدث أقدم