على غرار ثورة باريس التي انتهت بسقوط الباستيل، انتشرت الفتن في مدن الأقاليم في رون وأوك وبورج وديجون ثار الناس في كل مدينة وطردوا أعضاء المجلس البلدي كما حدث في استراسبورغ أو قيدوا حركتهم بلجنة موسعة كما حدث في ديجون وغيرها.
وأيا كان شكل ثورة البلديات، فالنتيجة كانت واحدة في كل مكان، وهي انتهاء سلطة الملكية والحكومة المركزية، وتسلمت البلديات كل السلطات بعد أن كان الحكم المطلق قد قضى عليها وتوقفت جباية الضرائب. و في شهادة أحد المعاصرين: لم يعد هناك ملك ولا برلمان ولا جيش ولا بوليس.

الجمعية الوطنية
مجلس الجمعية الوطنية


وكان مجدد الاضطرابات في كل مكان هو قلة القمح وغلاء ثمنه. فبدأت البلديات بفرض التسعيرة الجبرية، وبجمع أموال التموين ولو بالمصادرة، ونهب الأهالي تجار الغلال وانتشرت الاشاعات عن غزو أجنبي وتحدث الناس عن مؤامرة ارستقراطية لقمع حركة التحرير الشعبي، فانتشر الرعب الأعظم في نهاية يوليو 1789 وراقب الأهالي الطرقات، ومند اعلان الغاء مجلس الطبقات وانشاء الجمعية الوطنية في 17 يونيو وقسم ملعب التنس في 20 يونيو وسقوط الباستيل في14 يوليو 1789، سقطت السلطة تماما في يد الطبقات المتوسطة التي كانت تتألف منها الطبقة الثالثة، وسواء في باريس أو في الأقاليم سيطرت البرجوازية وحرسها الوطني على البلديات ومن خلالها على مقدرات فرنسا.

فماذا ربح الفلاحون من كل ذلك؟ لا شيء. فقد بقيت الامتيازات والحقوق والقوانين والأعراف الاقطاعية على حالها، فلم يلغ أي شيء منها. ولم يكن الريف أقل بؤسا من المدينة فازداد الشحاذون والجياع وانتشرت البطالة و عم الغلاء، وكثر اللصوص وقطاع الطرق، وغدت الطرقات غير آمنة.

فأخذ الفلاحون فرادى وجماعات يقتلون حمام النبلاء ويدمرون أبراجه لأن الحمام كان يلتهم محصولهم من القمح والغلال. كذلك أخذوا يقتلون أرانب النبلاء التي خربت محاصيلهم كما بدأوا يصطادون في غاباتهم وكانت هذه من الجرائم الكبرى. 

وكانت مطالب الفلاحين مركزة على الغاء الامتيازات الاقطاعية. وحين أدركوا أن ثورة باريس والمدن الفرنسية لم تعد عليهم بشيء تصاعد عصيانهم إلى تحد سافر للنبلاء. وسرت بينهم اشاعة تقول أن هناك مؤامرة ارستقراطية لتجويع الشعب بتنظيم عصابات من المجرمين لحرق وتدمير محاصيلهم الزراعية، فساد الرعب الأعظم في الريف الفرنسي فسلح الفلاحون أنفسهم بأدوات الزراعة وهاجموا قصور النبلاء وطالبوا النبلاء بتسليمهم الوثائق المزعومة لامتيازاتهم الاقطاعية لكي يحرقوها في ميدان القرية، فمن رفض منهم تسليم هده المستندات احرقوا قصره وشنقوه. وتكونت في ريف فرنسا لجان وميلشيات من الفلاحين. ورغم تحذيرات ميرابو للفلاحين من تصديق الاشاعات عمت الثورة كل ريف فرنسا وعرفت ثورة الفلاحين ومهاجمة قصور النبلاء باسم جاكيري Jacquerie. كل هذا حدث في اواخر يوليو 1789. فلا غرابة اذن أن أصيبت طائفة من النبلاء بالرعب وعمدت طائفة أخرى إلى مكر الثعالب لتفريغ غضب الفلاحين لكن جلسات الجمعية الوطنية انتهت بإلغاء الامتيازات الاقطاعية وبإعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي جعلته الجمعية التأسيسية بمثابة ديباجة للدستور الدي كانت تضعه. 


وقد ظهر اول تعارض في المصالح بين الفلاحين من جهة وبين البرجوازية من جهة أخرى في موقف الجمعية الوطنية والمجالس البلدية والحرس الوطني من ثورة الفلاحين وحركة الجاكيري لأن البرجوازية كانت تمتلك الأراضي مثل النبلاء، ولدا تكفل الحرس الوطني بقمع حركات الفلاحين بالسلاح. لان الجمعية كانت ترغب في قمع حركة الفلاحين ومنع استيلائهم على أطيان النبلاء، لأن أعضاءها كانوا ايضا من ملاك الأراضي . لكنها خشيت من تكليف الملكيين والجيش الملكي بقمع ثورة الفلاحين تحسبا من عودة السلطة القديمة إلى الحكم فقررت الغاء الامتيازات الاقطاعية رسميا بوصفها امتيازات مغتصبة لكي يلغى النظام الاقطاعي الغاء كليا، بعد ألف سنة من استقراره في فرنسا. 

أخذ النبلاء حينها يتبارون في التنازل عن امتيازاتهم في جلسة 4 اغسطس، فقدم الدوق ايجويون اقتراحا ندد فيه بالإقطاع وبكى فيه على الفلاح. و اشار بأن الحل هو ان يتنازل النبلاء عن حقوقهم في ملكية اراضي فرنسا وجباية نصيبهم من ريعها على أن يشتري الفلاحون هذه الحقوق بشروط ميسرة، مع الغاء كافة الامتيازات الضريبية والسخرة وكافة خدمات العبودية الشخصية، كما الغيت حقوق النبلاء في احتكار حقوق الصيد في الغابات والأنهار كما تقررت ازالة أبراج حمام النبلاء التي كانت تلتهم غلال الفلاحين. واقترح أحد النبلاء أن تتنازل الكنيسة عن العشور التي كانت تجبيها من الفلاحين فأحرج رجال الدين الذين ظهروا بمظهر المتقاعس عن نجدة الشعب الجائع، فاعلن أسقف نانسي أن الكنيسة تتنازل عن العشور. وحين رفعت هذه الجلسة التاريخية أعلنت الجمعية الوطنية ان لويس 16 هو معيد الحرية إلى فرنسا كل هذا حدث في غمرة الحماس وحب الحرية والمساواة والإخاء ولكنه في واقع الأمر حدث تحت تأثير ثورة الفلاحين حتى يعود النظام إلى الريف، ولم يكن خاليا من مكر الثعالب والمناورة لالتقاط الأنفاس. 

كل هذا حدث شفويا ليلة 4 أغسطس ولم تتم صياغة القوانين إلا بين 5و11 أغسطس وعند الصياغة حدثت بعض التراجعات فناورت الكنيسة لتسحب تنازلها عن العشور، ورغم اتخاد القرار بإلغاء النظام الاقطاعي إلا أن الجمعية الوطنية لم تلزم النبلاء بإثبات حقوقهم القانونية على الأرض التي يأخذون بموجبها الفرضة من الفلاحين. بعبارة أخرى تحرر الفرنسي من التزاماته الشخصية ولكن أرضه لم تتحرر. وعندما أدرك الفلاحون أن الاقطاع ألغي بالاسم هاجمت الحواضر ونظم الفلاحون المقاومة ورفضوا دفع حقوق الانتفاع الوهمية وكان على الفلاحين انتظار الجمعية التشريعية والمؤتمر الوطني فكانت مناقشة مبادئ الدستور الجديد بطيئة وعسيرة مثال ذلك مناقشة حرية الرأي والعقيدة حيث رأت الكنيسة بأن المسيحية الكاثوليكية هي الدين الرسمي للدولة، ولكن ميرابو عارض هذا بشدة على أساس أن هدا يتعارض مع حرية العقيدة ، وكانت مناقشات حقوق الإنسان متأثرة إلى حد كبير بأفكار مونتيسكيو ودالمبير وفولتير وديدرو وبفلسفة روسو ولذا جاءت مبادئ هدا الاعلان لتخاطب الإنسانية جمعاء وليس مجرد المواطنين الفرنسيين.

وفي 26 أغسطس 1789 وافقت الجمعية الوطنية على اعلان حقوق الإنسان الذي كان شهادة وفاة للنظام القديم. فهل انتهى كل شيء؟
كلا لم ينتهي كل شيء على خير لأن الملك رفض التصديق على مشروعات القوانين وعلى اعلان حقوق الإنسان قائلا أنا لن أوافق على تجريد كهنتي ونبلائي من ثروتهم. ولم يكن هناك ما يرغمه على التصديق إلا اشتعال الفتن من جديد. فاقترح البعض انشاء مجلس نبلاء على غرار مجلس اللوردات الانجليزي وأن يكون للملك حق الفيتو على مشروعات القوانين. لكن سيز اعترض على أي نوع من أنواع الفيتو قائلا لا يمكن لإرادة فرد أن تتغلب على ارادة العامة. وإذا أمكن للملك أن يمنع اصدار القانون فإن ارادته الخاصة تجعله ينتصر على ارادة العامة. إن أغلبية السلطة التشريعية يجب أن تعمل في استقلال عن السلطة التنفيذية، والفيتو المطلق أو المعطل للقوانين ليس إلا خطابا كاشيا، أي أمر اعتقال موجه ضد الارادة العامة. 

فقرر ممثلو الشعب أن الجهل والاهمال واحتقار حقوق الإنسان هي الأسباب الوحيدة للمصائب العامة ولفساد الحكومات، فقد قرروا أن يطرحوا في اعلان مهيب هذه الحقوق الطبيعية الثابتة التي لا يجوز الانتقاص منها فهي مبادئ بسيطة لا تقبل الاعتراض لكي تنحو دائما نحو الحفاظ على الدستور وعلى سعادة الجميع. كأن يولد الناس جميعا أحرارا ومتساوين في الحقوق وأن غاية كل التنظيمات السياسية هي الحفاظ على حقوق الإنسان الطبيعية التي لا يجوز المساس بها، وهذه الحقوق هي الحرية وحق التملك والأمن ومقاومة الطغيان ولا يجوز لأي فرد أو مجموعة من الأفراد أن تزاول أية سلطة ما لم تكن نابعة من الأمة صراحة.
وأن الحرية السياسية تقوم على القدرة على عمل أي شيء لا يضر بالآخرين ومباشرة أي إنسان لحقوقه الطبيعية لا حدود لها إلا الحدود اللازمة لضمان مباشرة أي إنسان آخر لنفس الحقوق مباشرة حرة وهذه الحدود لا يقررها إلا القانون.

للاطلاع على الأجزاء السابقة إليكم الروابط التالية:


                                       
 المراجع المعتمدة                             
نوراجاريه كتاب ميرابو                                                                                      
تاريخ الثورة  الفرنسية للعلامة البير سوبول                                                                                           
الثورة الفرنسية لدكتور لويس عوض


2 تعليقات

  1. استفدنا كثيرا من السلسلة بأجزاءها الثلاثة شكرا جزيلا لكم على المواضيع القيمة التي تنشرونها على المدونة

    ردحذف
  2. لا شكر على واجب أخي الكريم

    ردحذف

إرسال تعليق

أحدث أقدم