لا يمكن لأحد أن ينكر أن حضارتنا الحالية أساسها الأول والأخير هي المادة، واشباع رغبات الأفراد الحسية والغرائزية. لكن المشكلة أن هذه الثورة الصناعية والتكنولوجية، لم تحقق لنا السعادة التي كنا ننتظرها. بل بالعكس حولت الكثير منا إلى مرضى ومحبطين وتعساء نكره أنفسنا ونوجه عداءنا اتجاه الآخرين.
الطبيعة البشرية والمعاناة
الطبيعة البشرية والمعاناة

الطبيعة الشريرة للإنسان

وهذا ينسجم مع ما تروجه وسائل الإعلام والأفلام والخطابات السياسية، على أن البشر أنانيون وتنافسيون وعدائيون ويسعون فقط للكسب الشخصي، والسيطرة. فالحرب والعنف أمران حتميان، وهو ما سماه هوبز بحرب "الكل ضد الكل" لذلك كانت الحياة الطبيعية كلها فوضى وعنف.  كل واحد ينظر الى أخيه نظرة ملؤها الخوف والشك . وعليه تكون القوة والسيطرة طرق مشروعة لتحقيق الأهداف. ونفس الفكرة نجدها عند ميكيافيللي عندما يعتبر الناس خبيثون بطبعهم. لذلك لا ينبغي للمرء أن يكون شريفا دائما، وأن القسوة والرذيلة تضمن للدولة هيبتها واستمرارها، يقول (من الأفضل أن يخشاك الناس على أن يحبوك) والغاية تبرر الوسيلة والضرورة لا تعرف القانون. كما رأى «السوفسطائيون» أيضا أن الطبيعة الإنسانية؛ لا تحركها إلا الشهوة والهوى، مما يعني أن الطبيعة الإنسانية شريرة بطبعها، تمارس الشر بالقوة.

الطبيعة المحايدة للإنسان

لكن الطبيعة البشرية يمكن أن يكون لها تحليل آخر. فالإنسان عندما يولد يكون بمثابة لوح أبيض يمكن أن نكتب عليه ما نشاء أي أنه يولد حين يولد ولا يحمل في طبعه خيراً أو شراً، بل هو صفحة بيضاء خالية من عناصر الخير والشر، حسب نظرية جون لوك في تحديد الطبيعة البشرية حيث قال إنه بإمكانك تدريب الأطفال على أي شيء تريده فيمكنك برمجتهم لعمل أي شيء، عن طريق برمجة السلوك. وهذا يصب وإلى حد بعيد في كون البيئة هي المحدد الأساسي لطبيعة البشر. فنحن نتشكل انطلاقا مما نتعلمه .حتى أن جون واطسون مؤسس المدرسة النفسية المعروفة باسم السلوكية (Behaviorism) قال: أعطني اثني عشر طفلاً أصحاء، سليمي التكوين، وهيئ لي الظروف المناسبة لعالمي الخاص لتربيتهم وسأضمن لكم تدريب أيٍّ منهم، بعد اختياره بشكلٍ عشوائي، لأن يصبح أخصائيًا في أي مجالٍ ليصبح طبيبًا، أو محاميًا، أو رسامًا، أو تاجرًا أو حتى شحاذًا أو لصًا، بغض النظر عن مواهبه وميوله ونزعاته وقدراته وحرفته وعرق أجداده.

الطبيعة الخيرة للإنسان

ولكن هناك وجهة نظر ثالثة عن الطبيعة البشرية،  تختلف تماما عن التنافسية والعدوانية وفكرة اللوح الفارغ. وتقول هذه الفكرة الثالثة، أننا في الحقيقة منحازون بطريقة ما للتعايش والحب والكرم. ونميل للتواصل مع الكون ككل لما هو أبعد من مدانا المحدود، وأن الظروف المحيطة هي السبب في هذا الاختلال وهذا ينسجم تماما مع ما قاله سقراط والفلاسفة الرواقيون من بعده، من جهة طبيعة الإنسان الخلقية، حيث إنهم يرون: «أن الناس كلهم يخلقون أخياراً بالطبع، ثم بعد ذلك، يصيرون أشراراً بمجالسة أهل الشر، والميل إلى الشهوات الرديئة». ومن وجهة نظر هذه النظرية إذا كان لديك مجتمع يروج للأنانية والتنافسية سيزرع في النفوس شعورا بعدم الرضى وطلب المزيد دائما لأن الفرد في هذه الحالة سيعتبر نفسه مساو لما يمتلكه. وأن المادة هي المعيار الوحيد في تقييم الأشخاص،  فالمظهر الخارجي والحديث المتناسق والممتلكات هي محددات مرتبتك داخل المجتمع،  وكما ترى فإن هذه المعايير تعمل ضد الطبيعة البشرية وهذا هو سبب المعاناة .

لذا يمكن أن نقول أن ما يسبب المعاناة هو عيشنا في مجتمع غير طبيعي،  لأنه يسحق الطبيعة الخيرة للإنسان ويجعل الحب والكرم نقاط ضعف في بيئة يسودها منطق القوة والسيطرة.


التعاليق

أحدث أقدم