إن أبا بكر رضي الله عنه لم يكن مجردَ صاحب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم تكن علاقته به كعلاقته ببقية أصحابه، بل لقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه  وسلم كان ينتصر لأبي بكر، ونهى الناس عن معارضته، حتى إنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لمن خالف أبا بكر رضي الله عنه يوماً: (إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبتَ، وقال أبو بكر: صدقتَ، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ فما أوذي بعدها)، كما في صحيح البخاري، وفي هذا دلالة على مكانة الصديق الرفيعة عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم عند أصحابه.

ومضات من حياة أبي بكر الصديق
ومضات من حياة أبي بكر الصديق
ومن مواقفه رضي الله عنه: إنفاق ماله في سبيل الله، وقد كان رأس مال أبي بكر عند إسلامه يبلغ أربعين ألف درهم، وهذا مال كبير بالنسبة لغيره من الأغنياء، فأنفقه كله في إرساء دعائم هذا الدين، ومن ذلك شراء كثير من العبيد والموالي الذين أسلموا وكانوا مستضعفين معذبين وإعتاقهم في سبيل الله، ومنهم بلال بن رباح الحبشي مؤذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد شهد رسول الله بهذا الإنفاق، ففي الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن أمنَّ الناس عليَّ في ماله وصحبته أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذتُ أبا بكر خليلاً، ولكن أخوةُ الإسلام).

بعد موته صلى الله عليه وآله وسلم، فقد ارتدت أكثر قبائل العرب، واشرأبَّتْ أعناق أهل النفاق، ولا يشك أحد أن أقوى وأخطر الأزمات في تلك الأيام هي ردة العرب، فلولا عناية الله لهذه الدولة الناشئة، ثم حكمة أبي بكر الصديق، والعزيمة الكبرى التي بلغت قمتها حين أعلن أنه سيقود الجيش بنفسه لمواجهة فلول الردة، وأعداء الإسلام الجدد الذين كانوا يتربصون بالمدينة، وقال قولته المشهورة: (والله لو منعوني عِقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه)، وقال: (والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة)، لولا ذلك لكان من الأمور ما لا يحمد عقباه، ولكن الحمد لله الذي أحبط كيدهم على يد هذا الخليفة رضي الله عنه وأرضاه.

قال الإمام علي رضي الله عنه حين توفي الصديق رضي الله عنهما، عن أسيد بن صفوان رضي الله عنه قال: (لما قبض أبو بكر ارتجَّت المدينة بالبكاء كيوم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء علي رضي الله عنه باكياً مسرعاً مسترجعاً وهو يقول: اليوم انقطعت خلافة النبوة، حتى وقف على باب البيت الذي فيه أبو بكر مسجى، فقال: رحمك الله يا أبا بكر! كنت إلفَ رسول الله وأنسَه وثقتَه، وموضع سره ومشاورته، كنتَ أولَ القوم إسلاماً، وأخلصَهم إيماناً، وأشدَّهم يقيناً، وأخوفَهم لله، وأعظمَهم عناءً في دين الله، وأحسنَهم صحبة، وأكثرهم مناقب، وأفضلهم سوالف، وأرفعهم درجة، وأقربهم وسيلة، وأشبههم برسول الله هدياً وسمتاً ورحمةً وفضلاً وخلقاً، وأشرفهم منزلة، وأكرمهم عليه، وأوثقهم عنده، فجزاك الله عن الإسلام وعن رسول الله والمسلمين خيراً، كنت عنده بمنزلة السمع والبصر، صدَّقته حين كذَّبه الناس، فسماك الله في التنزيل صديقاً، فقال: ((وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ)) [الزمر:33]، وواسيته حين بخلوا، وقمت عند المكاره حين قعدوا، وصحبته في الشدائد أحسن صحبة، وخَلفته في دين الله وأمته أحسن الخلافة حين ارتد الناس... ثم قال بعدها وهي خطبة طويلة: رضينا بقضاء الله وسلمنا له أمره، فوالله لن يصاب المسلمون بعد رسول الله بمثلك أبداً، كنت للدين حرزاً، فألحقك الله بنبيه، وجمع بينك وبينه، ولا حرمنا الله أجرك، ولا أضلنا بعدك، فإنا لله وإنا إليه راجعون).


                                                    صحيح البخاري ومسلم
                                                    رجال حول الرسول


التعاليق

أحدث أقدم